تحليلات واراء

خطايا السلطة: معاناة غزة لا تقتصر على الاحتلال وحده

على مدار أكثر من عشرين عامًا، واجهت غزة العديد من التحديات الكبرى والتهديدات الأمنية المدمرة نتيجة الحروب الإسرائيلية المتتالية، ولكن لم تقتصر المعاناة على الاحتلال وحده.

فقد كانت السلطة الفلسطينية جزءًا من هذه المعادلة، ولعبت دورًا في العديد من اللحظات الحاسمة التي أثارت تساؤلات كبيرة حول مواقفها تجاه القضايا المصيرية لغزة وشعبها.

فمن سحب تقرير جولدستون إلى التقاعس عن تقديم الدعم المطلوب خلال الحروب، تعددت الأخطاء والتصرفات التي لا تُغتفر من قبل السلطة الفلسطينية تجاه القطاع.

سحب تقرير جولدستون: نقطة التحول السلبية

في عام 2009، عقب الحرب الإسرائيلية على غزة، صدر تقرير لجنة الأمم المتحدة الخاصة بالتحقيق في الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان، برئاسة القاضي الجنوب أفريقي ريتشارد جولدستون.

التقرير وثق الانتهاكات الإسرائيلية خلال الحرب، بما في ذلك استهداف المدنيين وتدمير البنية التحتية في غزة. التقرير لاقى دعمًا عالميًا واسعًا في أوساط حقوق الإنسان، وقد اعتبره المجتمع الدولي خطوة مهمة نحو محاسبة دولة الاحتلال.

لكن المفاجأة الكبرى كانت في عام 2011، عندما قامت السلطة الفلسطينية، عبر مندوبها في الأمم المتحدة، بسحب دعم التقرير والتراجع عن موقفها المبدئي.

فقد ضغطت السلطة الفلسطينية لسحب تأييد التقرير، مما فتح الباب أمام دولة الاحتلال الإسرائيلي والمجتمع الدولي لتجاهل التقرير واستبعاده من المناقشات الرسمية.

هذا التراجع كان بمثابة ضربة قوية لمصداقية السلطة الفلسطينية وأدى إلى فقدان غزة لأحد أهم الأدوات القانونية التي كان من الممكن استخدامها لمحاسبة إسرائيل على جرائمها.

التقاعس عن دعم المقاومة

على مدار الحروب الإسرائيلية على غزة، من حرب 2008-2009 إلى الحروب اللاحقة، تمثلت إحدى أكبر الأخطاء السياسية التي ارتكبتها السلطة الفلسطينية في تقاعسها عن دعم المقاومة الفلسطينية في القطاع.

فبينما كانت غزة تخوض معركة مستمرة ضد الاحتلال الإسرائيلي، كانت السلطة الفلسطينية في رام الله تنشغل أكثر بالحفاظ على علاقاتها مع الدول الغربية، وكان أحد عواقب ذلك هو غياب الدعم السياسي والمالي الذي كان يمكن أن يعزز موقف المقاومة الفلسطينية في غزة.

بالإضافة إلى ذلك، التزمت السلطة الفلسطينية بمواقف سياسية تميل إلى التعاون الأمني مع دولة الاحتلال في إطار اتفاقات التنسيق الأمني، مما اعتبره الكثيرون خيانة للقضية الفلسطينية وحقوق غزة.

سياسة الانقسام الفلسطيني: ضياع الفرص

منذ الانقسام الفلسطيني في عام 2007، بعد فوز حركة حماس بانتخابات تشريعية ديمقراطية، ظل هذا الانقسام يشكل حجر عثرة أمام أي خطوات جماعية توحد الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال.

كانت السلطة الفلسطينية في رام الله تسعى إلى احتكار الشرعية السياسية، بينما تعاملت مع غزة ككيان منفصل، وهو ما أضعف الموقف الفلسطيني في الساحة الدولية.

الانقسام الفلسطيني لم يكن فقط على المستوى السياسي، بل أثر أيضًا على تقديم الدعم الإنساني والإغاثي لغزة خلال الحروب.

ففي كل مرة كان يُشن فيها عدوان إسرائيلي على القطاع، كانت السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية تقف في موقف غير قادر على التدخل بشكل حاسم، مما جعل غزة تعاني من تفرد الاحتلال وأثر الحروب المدمرة دون أي موقف حاسم أو دعم حقيقي من قبل السلطة.

التواطؤ مع التطبيع العربي على حساب غزة

خلال السنوات الماضية، شهدت الساحة العربية محاولات متسارعة للتطبيع مع دولة الاحتلال، وكانت السلطة الفلسطينية في رام الله في بعض الأحيان تميل إلى السكوت عن هذه التحولات في المنطقة.

وفي وقتٍ كانت غزة تصارع من أجل البقاء أمام العدوان الإسرائيلي، كانت السلطة الفلسطينية تتماشى مع بعض السياسات العربية التي كانت تتجاهل معاناة القطاع، خاصة في ظل الجهود المتزايدة من بعض الأنظمة العربية لفتح قنوات التواصل مع دولة الاحتلال.

هذا الموقف فاقم من عزلة غزة وأدى إلى تفاقم الأزمات الإنسانية التي يعيشها سكانها، في وقت كان يتطلب فيه الوضع الفلسطيني موحدًا أمام التحديات الكبيرة.

التقاعس في معركة الأمم المتحدة

منذ إعلان دولة فلسطين في الأمم المتحدة عام 2012، كان من المتوقع أن تتخذ السلطة الفلسطينية خطوات قانونية فعالة لملاحقة جرائم الاحتلال الإسرائيلي في المحافل الدولية.

لكن في معظم الحروب، كان الموقف الفلسطيني في الأمم المتحدة يقتصر على بيانات إدانة عامة، دون اتخاذ خطوات ملموسة لرفع القضايا ضد دولة الاحتلال.

بل إن بعض التقارير تشير إلى أن السلطة الفلسطينية كانت في بعض الأحيان مترددة في اتخاذ خطوات حاسمة ضد تل أبيب على الصعيدين الدولي والمحلي، خوفًا من تأثيرات العلاقات مع الدول الكبرى في العالم.

المناورات السياسية على حساب غزة

لم يكن غياب المواقف الحاسمة والتراجع عن دعم غزة مقتصرًا على الملفات العسكرية فقط، بل امتد إلى الجوانب السياسية.

فبينما كانت غزة تواجه محاولات لتهويد أراضيها، كانت السلطة الفلسطينية تواصل المناورات السياسية مع أطراف خارجية على حساب مصالح الشعب الفلسطيني في القطاع.

وحتى في ظل الحاجة الماسة للوحدة الوطنية، كانت السلطة الفلسطينية تفضل أحيانًا استراتيجياتها السياسية الخاصة على حساب قضايا غزة الأساسية.

مسار لا بد من تغييره

يتضح أن السلطة الفلسطينية، وعلى مدار عقدين من الزمن، قد ارتكبت العديد من الأخطاء تجاه غزة، بدءًا من سحب تقرير جولدستون إلى التقاعس عن دعم المقاومة والتواطؤ مع التطبيع العربي.

هذا المسار السياسي الذي اتبعته السلطة أدى إلى تكريس الوضع الكارثي في غزة، وأدى إلى فقدان الشعب الفلسطيني في القطاع للعديد من الفرص السياسية والدبلوماسية التي كان من الممكن أن تحسن وضعه في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.

لذلك، فإن المستقبل يتطلب تغييرات جذرية في السياسة الفلسطينية، تعيد الاعتبار لغزة كمكون أساسي في المشروع الوطني الفلسطيني، وتجنب الأخطاء السابقة التي أسهمت في معاناته طوال عقدين من الزمن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى