التلويح الإسرائيلي بتصعيد العدوان على غزة: مراكمة الفشل الاستراتيجي

يرى مراقبون في استمرار التلويح الإسرائيلي بتصعيد العدوان، بما في ذلك توسيع العملية البرية في قطاع غزة، مراكمة للفشل الاستراتيجي الذي يزداد وضوحًا بفعل صمود المقاومة الفلسطينية وحاضنتها الشعبية، والعجز الإسرائيلي المتزايد عن تحقيق أهداف الاحتلال المعلنة.
وعندما اندلعت حرب الإبادة ضد قطاع غزة، لم يكن أحد يتوقع أن تستمر هذه الحرب لهذا الوقت الطويل. صحيح أن العقل والمنطق في البداية كانا يميلان إلى فرضية أن الانتقام الإسرائيلي سيكون عنيفًا بقدر الإهانة التي مُني بها جيش الاحتلال، وأن حجم الانتقام سيشكل ضربة موجعة على المستوى العسكري والشعبي.
لكن لم يتوقع أحد أن الحرب ستستمر عامًا ونصفًا، وأن عدد الضحايا سيستمر في الارتفاع دون أي مؤشر حقيقي على قرب نهايتها.
حقيقةً، الحرب مستمرة، وتستمر معها التساؤلات حول موعد انتهائها، بل إن المسؤولين الإسرائيليين أنفسهم يواجهون صعوبة في تقديم إجابة دقيقة على هذا السؤال.
في الأيام القليلة الماضية، أوردت عدة صحف إسرائيلية تصريحات عن مصادر مقربة من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، مفادها أن هناك خطة لإنهاء الحرب في أكتوبر/تشرين الأول المقبل. ومع ذلك، لا يبدو هذا الموعد “مقدسًا”، بل يرتبط بتحقيق الأهداف المحددة. وفي حال استمرار الفشل في الوصول إليها، قد تتأخر الحرب أو يتم التراجع عن الموعد المحدد.
تضارب بين الطموحات والفشل الميداني
حددت القيادة الإسرائيلية ثلاثة أهداف رئيسية للحرب في قطاع غزة: أولها القضاء على القدرات العسكرية لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، وثانيها استعادة الأسرى الإسرائيليين، وثالثها استعادة قوة الردع على المستوى الإقليمي. لكن عند التأمل في هذه الأهداف، نجد أن دولة الاحتلال لم تتمكن من تحقيق أي منها بشكل كامل.
بالنسبة للأسرى، ما زالت دولة الاحتلال عاجزة عن استعادة كل الأسرى المحتجزين لدى المقاومة، وبعضهم عاد بفضل اتفاقات سياسية لا علاقة لها بالضغط العسكري.
من جهة أخرى، بينما سعت دولة الاحتلال إلى إضعاف المقاومة العسكرية في غزة، إلا أنها لم تستطع القضاء على قدراتها. بل على العكس، تشير التقارير العسكرية الإسرائيلية إلى أن المقاومة لا تزال تحتفظ بقدرتها على المناورة، وهي تراقب التحركات الإسرائيلية وتنتظر اللحظة المناسبة لتنفيذ عملياتها.
في هذا السياق، أكد محللون عسكريون أن العمليات الأخيرة للمقاومة تكشف عن استعدادها الجيد وحرفيتها، وأنها تحافظ على عناصر المفاجأة في الهجوم على الجنود الإسرائيليين.
السيناريوهات المحتملة: فيتنام غزة؟
ما يزيد من تعقيد الوضع بالنسبة لإسرائيل هو أن بعض المحللين الإسرائيليين، مثل الصحافي في صحيفة “معاريف” إفرايم جانور، بدأوا يتخوفون من تكرار السيناريو الفيتنامي في قطاع غزة، حيث يتحول كل تمركز للقوات الإسرائيلية إلى هدف جديد للمقاومة.
هذا السيناريو يشير إلى أن دولة الاحتلال قد تدرك في نهاية المطاف أن الحرب قد تكون خاسرة، وأن ما تأمل فيه من استسلام المقاومة لن يحدث، مما يعني أن تل أبيب قد تجد نفسها في مواجهة حرب استنزاف طويلة.
ومن أجل استعادة قوتها الردعية، ارتكبت دولة الاحتلال العديد من جرائم الحرب في غزة، حيث لم تكتفِ بإظهار تفوقها العسكري على المستوى الإقليمي، بل سعت أيضًا إلى ترك بصمة تدميرية في غزة، سواء على المستوى العسكري أو الاقتصادي.
فقد كانت الحرب وسيلة لإرسال رسالة للشعوب العربية ودول المنطقة مفادها أن جيش الاحتلال قادر على تدمير أي شيء يقف في طريقه.
إلا أن كل هذا التدمير لم يعطِ دولة الاحتلال القدرة على استعادة مفهوم الردع الذي سعت إلى ترسيخه منذ تأسيس الكيان الصهيوني.
فبالرغم من العنف الممارس، لم تتمكن دولة الاحتلال من محو الإهانة التي تعرض لها جيشها في بداية الحرب.
كما أن الشعوب العربية لن تنسى أبدًا تضحيات المقاومة الفلسطينية في غزة، وخاصة في ظل الدعم المستمر للمقاومة من جماعات أخرى مثل الحوثيين في اليمن.
الداخل الإسرائيلي: توترات ومظاهرات ضد الحرب
بالإضافة إلى الفشل العسكري، يعاني الداخل الإسرائيلي من توترات اجتماعية متزايدة نتيجة طول مدة الحرب. فقد أدت الحرب الطويلة إلى سقوط مزيد من القتلى من الجنود الإسرائيليين، مما يعمق الاستياء الشعبي.
ففي الوقت الذي يطالب فيه الجمهور الإسرائيلي بوقف الحرب أو على الأقل التوصل إلى صفقة تبادل أسرى، نجد أن الحكومة الإسرائيلية تُراوغ وتُواصل تجنب اتخاذ خطوات حاسمة.
إحدى القضايا المثيرة للجدل هي استثناء الجنود الحريديم من الخدمة العسكرية، وهو ما يخلق نقصًا ملحوظًا في عدد الجنود القادرين على تنفيذ العمليات العسكرية في قطاع غزة. هذا الوضع يضع الجيش الإسرائيلي في موقف صعب ويحد من قدرته على الاستجابة الفعالة للمقاومة.
استمرار الحرب: سؤالٌ بلا إجابة
مع استمرار الحرب، بدأ معارضو التصعيد العسكري يطرحون أسئلة منطقية حول الجدوى من الحرب الطويلة. ويشعر العديد من الإسرائيليين أن الحرب أصبحت عبثية في ظل غياب أي خطة استراتيجية واضحة للمرحلة المقبلة.
كما تساءلت الصحافية في “يديعوت أحرونوت”، موران أزولاي، عن سبب الإصرار على الاستمرار في نفس الاستراتيجية العسكرية، متسائلة: “لماذا نتوقع نتائج مختلفة إذا كنا نفعل نفس الشيء؟”
وتتفاقم الأزمة السياسية في دولة الاحتلال مع كل يوم يمر في الحرب. فكل يوم إضافي في الحرب يعني مزيدًا من الخسائر البشرية والتدمير، فضلاً عن التأثير السلبي على الاقتصاد الإسرائيلي.
لذا، فإن أي انسحاب إسرائيلي دون تحقيق أهداف ملموسة سيُعتبر هزيمة استراتيجية. في المقابل، فإن أي اتفاق تبادل أسرى يفضي إلى وقف القتال قد يُعتبر “الشر الأقل”، لكنه سيظل يعكس فشلًا في تحقيق الأهداف العسكرية.
الصحافي الإسرائيلي ميخائيل ميلشتاين من مركز موشيه دايان كتب في “يديعوت أحرونوت” أن إسرائيل تجد نفسها في “مأزق استراتيجي”، إذ لا هي قادرة على انتصار حاسم، ولا هي قادرة على الاستمرار في القتال إلى ما لا نهاية.
هذا الوضع يجعل الخيارات أمامها محدودة، ويؤكد على أن المقاومة الفلسطينية قد استطاعت أن تعيد تشكيل المعادلة العسكرية، فيما يظل الاحتلال الإسرائيلي يبحث عن مخرج من هذا المأزق.
الخيارات محدودة والنتائج غير مؤكدة
في النهاية، يواجه الاحتلال الإسرائيلي تحديًا استراتيجيًا كبيرًا في غزة. فبقدر ما يعاني من فشل في تحقيق أهدافه العسكرية، يواجه أيضًا ضغوطًا داخلية وشعبية تطالب بإنهاء الحرب أو التوصل إلى تسوية.
وقد تكون هذه الحرب قد بدأت بغرض الردع، ولكنها اليوم أصبحت أكثر من مجرد حرب استنزاف تضع دولة الاحتلال في موقف صعب قد لا تجد مخرجًا منه بسهولة.