محور المقاومة يستنزف “إسرائيل” ويعيد تشكيل الشرق الأوسط
ينشط محور المقاومة وعلى عدة جبهات في حرب استنزاف تعد غير مسبوقة في دولة الاحتلال الإسرائيلي، في وقت تمهد هذه المواجهة المفتوحة إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط.
ومنذ عقود، كان هذا المستوى من التعبئة غير المسبوقة للجبهات المتعددة – شبكة من الدول والحركات المتحالفة – لدعم المقاومة الفلسطينية متوقعًا منذ فترة طويلة.
وبينما كانت “إسرائيل” لا تزال تشن حربها الشاملة على غزة ولبنان، تصاعدت الحرب متعددة الجبهات، التي استمرت لمدة عام، بشكل حاد في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2024، عندما شنت إيران هجوما صاروخيا ضخما على منشآت عسكرية في جميع أنحاء دولة الاحتلال.
وبحسب طهران، فإن هذا الهجوم جاء ردا على الاغتيالات الإسرائيلية لشخصيات إيرانية ولبنانية وفلسطينية، وأبرزها الزعيم السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، وزعيم حزب الله حسن نصر الله .
وقد مثلت هذه الضربة الثانية المباشرة التي تشنها إيران على “إسرائيل” في صراع يصفه المحللون المؤيدون لإسرائيل بأنه ” حرب على ست جبهات”، ودمج الصراعات في الشرق الأوسط في “حرب كبيرة واحدة”.
ومنذ 7 أكتوبر 2023، تخوض “إسرائيل” حربًا من غزة والضفة الغربية إلى لبنان وسوريا واليمن والعراق وإيران.
وقد كان الهجوم الصاروخي الإيراني الكبير على إسرائيل هذا الشهر بمثابة ذروة العمليات المنسقة. وقد وصف أبو عبيدة، المتحدث باسم الجناح العسكري لحركة حماس، كتائب عز الدين القسام، هذه اللحظة بأنها التقاء لهيب المقاومة لدى الأمة في سماء فلسطين.
وأثبت الهجوم أن محور المقاومة، الذي ركز على فلسطين باعتبارها موحده الأيديولوجي، أصبح قوة مؤثرة في المنطقة.
إنشاء المحور
نشأ محور المقاومة بعد عام 1979 من خلال عدة أحداث حاسمة، أبرزها الثورة الإيرانية 1978-1979، وغزو العراق لإيران عام 1980، وغزو “إسرائيل” للبنان عام 1982.
وكانت العراق، في عهد الرئيس صدام حسين، تخشى انتشار الثورة الإيرانية، فيما كانت “إسرائيل” تشعر بالقلق إزاء نشوء محور منظمة التحرير الفلسطينية وإيران في لبنان.
إن هذه الغزوات، التي سعت إلى احتواء الثورة داخل حدود إيران، أدت بدلاً من ذلك إلى جذب إيران إلى سوريا، مما أدى إلى نشوء محور المقاومة.
وعلى هذا، وعلى النقيض من الروايات السائدة في وسائل الإعلام الغربية التي تصف المحور بأنه توسعي، فقد نشأ هذا المحور كشراكة دفاعية بين إيران وسوريا.
في ذلك الوقت، كانت إيران وسوريا تتقاسمان المخاوف الجيوسياسية بشأن طموحات صدام في المنطقة. فقد كانتا تخشيان سقوط لبنان في معسكر الأنظمة العربية مثل الأردن ومصر، التي اعترفت بإسرائيل.
وبين هذين العاملين، برزت “إسرائيل” باعتبارها العامل الدائم في تعزيز التحالف الإيراني السوري.
وفي يونيو/حزيران 1982، شنت “إسرائيل” غزوًا على لبنان، مما أسفر عن تدمير هائل ومذابح، قُتل خلالها ما يقرب من 50 ألف لبناني وفلسطيني.
لقد نجح الغزو في إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، ولكن المقاومة المسلحة التي كانت أقوى منها حلت محلها. وقد كان هذا إيذاناً بظهور المقاومة الإسلامية في كل من المجالين اللبناني والفلسطيني.
لقد خرج حزب الله من المقاومة اللبنانية والفلسطينية للغزو الإسرائيلي، وتمكن من طرد الجيش الإسرائيلي من بيروت ومعظم الأراضي اللبنانية إلى جنوب لبنان بحلول عام 1985.
وكان التعاون بين إيران وسوريا، من خلال توفير القواعد والتدريب العسكري والأسلحة، حاسماً في نجاح حزب الله ضد الجيش الإسرائيلي، مما أدى إلى انسحاب إسرائيل من لبنان في عام 2000، باستثناء مزارع شبعا.
وبلغت هذه الإنجازات ذروتها في يوليو/تموز 2006، عندما شنت “إسرائيل” هجوماً شاملاً على لبنان بعد أن أسر مقاتلو حزب الله جنوداً إسرائيليين في غارة عبر الحدود، بهدف مبادلتهم بالمعتقلين اللبنانيين لدى الاحتلال.
وقد عززت هذه الإنجازات صورة حزب الله باعتباره منظمة المقاومة المسلحة الوحيدة التي أرغمت “إسرائيل” على التنازل عن الأراضي المحتلة. والواقع أن حزب الله أزال الخط الأحمر الذي رسمته دولة الاحتلال منذ أمد بعيد: عدم التنازل في مواجهة المقاومة المسلحة.
تأثر التحول الذي شهدته المقاومة الفلسطينية، بقيادة حماس والجهاد الإسلامي، بشكل ملحوظ بالمقاومة الإسلامية في لبنان.
وكان الإذلال التاريخي الذي تعرضت له “إسرائيل” في عام 2000 بمثابة لحظة دافعة للفلسطينيين، الذين كانوا منذ فترة طويلة يشعرون بخيبة الأمل إزاء اتفاقات أوسلو.
وعلى هذه الخلفية اندلعت الانتفاضة الثانية (2000-2005)، مع تجدد المقاومة المسلحة ضد الاحتلال. واستمرت حماس والجهاد الإسلامي في بناء قدراتهما العسكرية، وخاصة في غزة المحررة.
وكان الانسحاب الإسرائيلي من غزة في عام 2005 بمثابة لحظة محورية في مسار المقاومة الفلسطينية، ليس فقط بالنسبة لغزة ولكن أيضًا لتعزيز الهدف الأوسع المتمثل في تحرير فلسطين من النهر إلى البحر.
ومن خلال التعاون مع المحور، طورت كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحماس، وسرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، قدراتهما وخبرتهما العسكرية بشكل مطرد، مما يشكل تحدياً كبيراً للجيش الإسرائيلي.
لقد تطورت ترسانة حماس العسكرية من الاعتماد على المدافع الرشاشة وقت الانسحاب الإسرائيلي من غزة إلى امتلاك تكنولوجيا الصواريخ القادرة على ضرب تل أبيب وما وراءها بقوة تدميرية كبيرة.
وقد نشأ تطوير هذه القدرات العسكرية من التعاون الطويل مع إيران وسوريا وحزب الله، الذي تقاسم الخبرات في تطوير الصواريخ والطائرات بدون طيار مع حماس والجهاد الإسلامي.
وتجلت هذه القدرة في معارك مختلفة، أبرزها معركة سيف القدس التي استمرت 11 يوماً في العام 2021، والتي كشفت عن قدرة المقاومة على مواجهة “إسرائيل” وتعطيلها على امتداد أراضيها بشكل فعال.
إفشال مشروع التطبيع وحزب استنزاف
تحت قيادة ترامب وبايدن، سعت الولايات المتحدة الأمريكية بقوة إلى إبرام اتفاقيات إبراهيم لإنشاء شرق أوسط جديد يتمحور حول التطبيع مع دولة الاحتلال.
واستبدلت واشنطن ما يسمى بالسلام الإسرائيلي مع الفلسطينيين بتطبيع إسرائيلي مع المستبدين في المنطقة، وعلى رأسهم الأسر الحاكمة في المملكة العربية السعودية والبحرين والإمارات العربية المتحدة.
لكن هجوم طوفان الأقصى للمقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول لم يؤد إلى إفشال اتفاقيات إبراهيم للتطبيع فحسب، بل أيضاً إلى إحياء محور المقاومة ومن انخراطه في مواجهة استنزاف مستمرة.
وقد كان من الصعب أن نتخيل هذه الاستمرارية الطويلة لولا الحركة العالمية المؤيدة لفلسطين وقضية تحرير القدس، التي شكلت نقطة التقاء للأمة الإسلامية.
وعلى حد تعبير مؤسس الجهاد الإسلامي فتحي الشقاقي: “إن فلسطين والوحدة… تشكلان وجهي المشروع الإسلامي”، في مواجهة “التجزئة والكيان الصهيوني وجهي المشروع الاستعماري”.
فضلاً عن كونها قضية للمسلمين، تظل فلسطين قضية جوهرية في العالم الثالث. ولا يزال ارتباطها بالنضالات الأوسع نطاقاً من أجل العدالة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية يشكل إحدى القضايا الأكثر توحيداً داخل حركة العدالة العالمية المتنوعة.
وبفضل تضامن دول العالم الثالث والمسكونية الإسلامية، نجح أبطال وشهداء فلسطين في توحيد عناصر المحور بما يتجاوز الهويات الطائفية والخلافات السياسية.
منذ أوائل ثمانينيات القرن العشرين، أدى نمو المحور إلى تغيير ديناميكيات القوة بينها وبين “إسرائيل” بشكل ملحوظ.
واليوم يظهر الواقع أن الحروب السريعة التي خاضتها “إسرائيل” بأقل الخسائر على أراضي الآخرين، والتي أسفرت عن انتصارات حاسمة، هي من بقايا عصر مضى. وهذا التغيير مدين إلى حد كبير لأربعة عقود من التضامن والتعاون عبر الطوائف والقوميات بين شركاء محور المقاومة.
المصدر/ Middle East Eye