غزة تتضوّر جوعاً… والنظام العربي في غيبوبة

بينما يئنّ أطفال غزة تحت وطأة الجوع، وتلفظ المستشفيات أنفاسها الأخيرة مع انقطاع الدواء والغذاء، تقف الدول العربية عاجزة، أو بالأحرى، متواطئة بالصمت وكأنها في غيبوبة.
لا ماء يصل، ولا خبز يُسمح بعبوره، في مشهد لا يمكن تفسيره إلا بوصفه شهادة وفاة نهائية لما تبقّى من النظام الرسمي العربي، الذي لم يتمكّن حتى من فتح معبر أو إيصال شاحنة إغاثة لمنطقة تُقصف وتحاصر وتُجَوَّع على مرأى ومسمع العالم.
لم يعد الحديث عن ضعف العالم العربي ترفاً أو تكراراً مملاً. لقد صار المشهد أكثر سفوراً من أن يُغطى بأي خطاب سيادي أو قومي. فالعجز العربي عن إدخال قارورة ماء إلى غزة هو اختزال مكثّف لانهيار تامّ في منظومة القرار، وغياب كلي لأدنى مقومات الكرامة السياسية والإنسانية.
هذا الانكشاف ليس وليد اللحظة، بل تراكم طويل من التبعية، والاصطفاف في مشاريع خارجية، والتخلّي المتدرّج عن القضية الفلسطينية بوصفها بوصلة الوجدان العربي.
لقد شكّل العدوان على غزة مرآة قاتمة انعكست فيها هشاشة الدولة العربية، حيث سقطت الشعارات الكبرى في أول اختبار حقيقي. سيادة؟ أمن قومي؟ استقلال قرار وطني؟ كلها شعارات تروَّج محلياً للاستهلاك الداخلي، بينما في الواقع، تقف الأنظمة العربية متفرّجة على الإبادة الجماعية لشعب محاصر، مكتفية ببيانات التنديد وتغريدات الاستغاثة.
ليس هذا العجز محض صدفة، بل نتيجة بنيوية لمسار طويل من الانهيار. فالنظام الرسمي العربي، بملكياته وجمهورياته، يراوح منذ عقود بين العجز والصمت والتواطؤ، حيث يبحث كلّ نظام عن خلاصه الفردي، إما بالمزيد من القمع الداخلي أو بالارتماء في أحضان الحمايات الدولية، حتى لو كان الثمن هو القضية الفلسطينية بأسرها.
وقد تقاطعت سياسات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مع مشروع بنيامين نتنياهو في رسم شرق أوسط جديد، شرق أوسط إسرائيلي بامتياز، يتجاوز الضفة وغزة ليشمل كامل المجال العربي. مشروع صُمم على مقاييس الخوف والطمع، واشتغل على تفكيك المنطقة عبر الترغيب تارة (المال والسلاح والاستثمارات) والترهيب تارة أخرى (الحروب والابتزاز الأمني).
ومن بين كل هذه الدول، لم يخرج صوت واحد يمكن وصفه بالسيادي، بل تحوّلت عواصم العرب إلى مراكز توزيع بيانات ومراكز إغاثة رمزية لا تُسمن ولا تُغني من جوع.
وما كان لهذه المشاريع أن تتمدد، لولا الانصياع المسبق، ولولا حكّام لا يرون في شعوبهم إلا تهديداً أمنياً يجب احتواؤه، بينما يرون في الخارج مصدر شرعية وديمومة.
الخضوع الطوعي
نتنياهو لم يكن ليحلم بفتح عواصم عربية على مصراعيها أمام مشروعه لولا توفر هذا المناخ من الخضوع الطوعي، بل إن بعض الأنظمة العربية استخدمت غطاء “الدولة الفلسطينية” لتبرير تراجعها، قبل أن يسقط هذا الغطاء نهائياً بعد اعتراف إدارة ترامب بيهودية الدولة الإسرائيلية وحقها في التمدد شرقاً.
إن الحلف التوراتي بين ترامب واليمين الصهيوني لم يكن مجرد تحالف سياسي مؤقت، بل كان مشروعاً أيديولوجياً بامتياز، يستمد جذوره من المرويات الإنجيلية ومخططات الاستيطان الكبرى. تهجير الفلسطينيين، إعادة رسم الحدود، تحويل تل أبيب إلى مركز قيادة للمنطقة: كل ذلك كان يجري بينما الحكومات العربية تصارع خصومها المحليين، أو تستجدي بقاءها من خلال صفقات لا تُستخدم إلا لإدامة القمع الداخلي.
في سيناء، تهديد مستتر بإعادة توطين الفلسطينيين. في الأردن، ضغط مكثّف يهدّد الكيان والدور. في لبنان، طائرات إسرائيلية تجوب الأجواء دون رادع. في سورية، تمدّد إسرائيلي تدريجي.
وفي الخليج، تسارع نحو “الاتفاقات الإبراهيمية” على حساب كل ما له صلة بالقضية الفلسطينية أو حتى الاستقلال الوطني. أما إيران، فتتموضع في الهامش الغامض لمعادلة إقليمية أميركية لم تُحسم، بين تصعيد وتحجيم، بينما الأساطيل تملأ البحار، وكأن المنطقة تحضّر لزلزال استراتيجي كبير.
كل هذا يحدث والدول العربية تائهة، بلا مشروع، بلا خيال سياسي، بلا قدرة على الفعل أو حتى التفاعل. فالمعادلة الراسخة في بنيتها تقوم على عنف داخلي مطلق، يقابله خضوع خارجي كامل.
هذه ليست مسألة مواقف فقط، بل هي نتيجة هيكلية لضعف الدولة العربية في تكوينها، فهي دولة بوليسية في الداخل، هشة وانقيادية في الخارج. حتى الديمقراطية، لو كُتب لها أن تستقر، لن تكون كافية لقلب موازين القوة ما لم تُستكمل بإرادة سيادية واستقلال في القرار والاقتصاد والسياسة.
وفي المحصّلة، هناك حقيقتان لا مهرب منهما كشفت عنهما أحداث غزة الأخيرة: هشاشة الدولة العربية، ونهاية النظام الرسمي العربي بوصفه إطاراً سيادياً فاعلاً.
وبينما يُذبح الغزّيون جوعاً وناراً، تتكدّس الشاحنات عند الحدود، ويكتفي الحكّام العرب بالبكاء على الأطلال، أو تقديم أنفسهم كمنظمات إغاثية تدعو لوقف إطلاق النار، فيما يمسك نتنياهو بمفاتيح اللعبة: متى تبدأ الحرب، ومتى تتوقف، ومتى يُسمح لقطرة ماء أن تعبر.
هذا واقع لا يغيّره الخطاب ولا تستّره الدبلوماسية. إنها لحظة الحقيقة المرة: أن الكارثة لم تعد في غزّة فقط، بل في نظام عربي يحتضر، فيما الشعوب تتوق إلى الخلاص، لا من الاحتلال فحسب، بل من العجز الرسمي القاتل.