مخطط التفتيت الصهيوني.. المقاومة الفلسطينية كجدار الصد الأخير

في فبراير/شباط 1982، نشرت مجلة “كيفونيم” التابعة للمنظمة الصهيونية العالمية مقالًا بالغ الخطورة بعنوان “استراتيجية من أجل إسرائيل في الثمانينيات” بقلم الدبلوماسي والصحافي الإسرائيلي عوديد ينون يتناول فيه مخطط التفتيت الصهيوني للمنطقة العربية.
المقال في ظاهره تحليل جيوسياسي، وفي حقيقته وثيقة استراتيجية ترسم معالم مشروع إسرائيلي طويل المدى لتفتيت العالم العربي إلى دويلات طائفية وعرقية هشّة، تضمن لإسرائيل تفوّقًا بنيويًا دائمًا في محيطها الإقليمي.
وقد تبدو أطروحات ينون اليوم أشبه بنبوءات. لكنه لم يكن منجمًا، بل مستشارًا سياسياً لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون، ومقرّبًا من مطبخ صنع القرار الإسرائيلي.
وما يجعل مقاله يعكس بدقة ما وصفه الناشط الحقوقي الإسرائيلي الراحل دولة الاحتلال شاحاك بأنه “العقل الحركي الصهيوني” لا فقط فكره المجرد.
إذ أن هذه العقلية لم تغادر موقعها منذ تأسيس دولة الاحتلال: تحويل الجغرافيا السياسية المحيطة بها إلى فسيفساء متناحرة، بدل أن تبقى كتلة استراتيجية قد تهدّد تفوّقها.
وبحسب ينون، لا يمكن لإسرائيل ضمان بقائها بالتفوق العسكري وحده، بل يجب عليها تفكيك الجبهة العربية وتحويلها إلى ساحات صراع داخلي دائم.
والهدف: إنتاج شرق أوسط بلا مراكز قوة عربية، وبلا فكرة جامعة، لتكون دولة الاحتلال وحدها الدولة “الطبيعية” والمهيمنة، والقادرة على إدارة التوازنات.
نهج زرع الفتن
من مصر إلى سورية والعراق، مرورًا بلبنان وفلسطين والسودان، تتكرر الأطروحة ذاتها: زرع الفتن، تشجيع الانقسامات، ودعم الكيانات الطائفية والقومية الضيقة على حساب الدولة الوطنية الجامعة.
فمصر – بحسب ينون – قابلة للتقسيم إلى ثلاث دويلات (سنيّة، قبطيّة، نوبيّة)، وسورية إلى أربع (علويّة، سنية دمشقية، سنية حلبية، درزيّة)، والعراق إلى ثلاث (شيعية، سنية، كردية)… وهكذا.
واليوم، بعد أكثر من أربعين عامًا على نشر هذه الوثيقة، تتبدّى معالم تنفيذ هذا المشروع على الأرض.
فالسودان انقسم، وليبيا في طريقها إلى التقسيم الواقعي، والعراق هشّ، وسورية ممزقة، ولبنان تحت ضغط الانهيار، وفلسطين تُخضع عبر حرب إبادة ممنهجة.
لكن ماذا يعني كل ذلك؟ يعني أن المشروع الصهيوني لم يعد مجرد أطروحة، بل هو واقع يتقدم.
ومن المؤلم أن هذا التقدم يجري أحيانًا بتواطؤ أو تقاعس من بعض الأنظمة العربية التي اختارت التطبيع مع دولة الاحتلال كأفق وحيد، متجاهلة أن هذه الأخيرة لم تتخلَّ يومًا عن مشروع التفتيت، بل تستخدم “السلام” كأداة لاختراق الجبهة الداخلية للعرب.
ورغم هذا السواد، هناك نقطة مقاومة صلبة لم تنكسر: فلسطين. أو بشكل أدق، المقاومة الفلسطينية.
فالمجتمع الفلسطيني، الذي أرادته دولة الاحتلال منفيًّا أو خانعًا أو متكيفًا مع الهزيمة، عاد ليكون مركز الثقل العربي الوحيد القادر على فرملة الاندفاعة الإسرائيلية.
المقاومة وإعادة الاعتبار لمعنى الصراع
منذ الانتفاضة الأولى، مرورًا بالثانية، وصولًا إلى معركة “سيف القدس” ثم عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، ظلّت المقاومة تُعيد الاعتبار لمعنى الصراع، وللهوية العربية كهوية مواجهة.
صحيح أن دولة الاحتلال تحاول عبر مشاريع كـ”صفقة القرن” و”اتفاقات أبراهام” تطويق هذه المقاومة وعزلها، لكنها لم تفلح في قتل جذوتها.
بل إن مشاهد الوحدة الميدانية بين الفصائل الفلسطينية، واحتضان الشعوب العربية للمقاومة، أحرجت حتى بعض الأنظمة التي هرولت للتطبيع. وما يحدث اليوم في غزة – رغم الكارثة الإنسانية – ليس إلا محاولة إسرائيلية لتدمير “حائط الصد الأخير” ضد مشروع التفتيت.
فالمقاومة، على محدودية أدواتها، تمثل اليوم الرادع الحقيقي أمام السردية الإسرائيلية حول شرق أوسط مفكك تعيد تشكيله على مقاسها.
كل بيت يُقصف في غزة، وكل نازح يُهجّر، هو في نظر قادة الاحتلال خطوة نحو طمس الهوية الفلسطينية، وتفكيك القضية، واستكمال حلقات مخطط ينون.
لكن إرادة الصمود في فلسطين تعني شيئًا آخر: أن المشروع الصهيوني لن يمر بسهولة. وأن الأمل لم يمت.
فالمقاومة لم تعد فقط دفاعًا عن فلسطين، بل عن كل الخرائط العربية. عن مصر الموحدة، والعراق المستقل، وسورية الدولة، والسودان الذي لن يكون دويلات.
باختصار، ربما تكون دولة الاحتلال قد أعدّت مخططها قبل عقود، لكن الشعوب العربية – عبر مقاوماتها وإن بأشكال مختلفة – لا تزال تملك القدرة على تقويضه.
ويبقى السؤال: هل تتحوّل هذه المقاومة من فعل ردّ إلى مشروع عربي مضاد يعيد رسم المنطقة وفق مصالح أبنائها، لا أطماع الغازي الصهيوني؟.