احتياجات ومتطلبات هائلة في غزة بعد وقف إطلاق النار
مع بدء سريان اتفاق وقف إطلاق النار المقرر غدا الأحد لإنهاء حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية التي استمرت أكثر من 15 شهرا تبرز احتياجات ومتطلبات هائلة للإغاثة وإعادة الإعمار.
ومع صمت المدافع، تستمر محنة سكان قطاع غزة الذين لا يستطيعون الحصول على المياه النظيفة والغذاء والكهرباء، والذين يعيشون في واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم.
وفي تقرير أصدره البنك الدولي في إبريل/نيسان الماضي ــ قبل تسعة أشهر من إعلان وقف إطلاق النار ــ قدر البنك أن إعادة بناء قطاع غزة سوف تتطلب نحو 18.5 مليار دولار.
وقال البنك إن هذا التقدير من المرجح أن يرتفع لأن هناك حاجة إلى إجراء تقييمات في القطاع.
وفي يناير/كانون الثاني 2025، قالت الأمم المتحدة إن ما يقرب من 70 في المائة من جميع الهياكل في القطاع، بما في ذلك تسعة من كل عشرة منازل، قد دمرت أو تضررت.
ومن بين سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، نزح أكثر من 1.9 مليون شخص، ويعيش مئات الآلاف منهم في خيام مؤقتة لا توفر لهم مأوى من الطقس.
وقالت منظمة الصحة العالمية في يناير/كانون الثاني إن إعادة بناء النظام الصحي في غزة سوف يتطلب نحو 10 مليارات دولار على مدى السنوات الخمس إلى السبع المقبلة.
ويقول الخبراء إن إعطاء الأولوية للعديد من القطاعات في آن واحد يعادل “البدء من الصفر”. على سبيل المثال، قد يكون لدى الدولة التي تفقد مدينة بأكملها في زلزال مدينة أخرى مجاورة بها مستشفيات وعمال طوارئ مستعدون للمساعدة.
ويفتقر العديد من سكان غزة إلى إمكانية الوصول إلى المياه النظيفة في واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية في العالم.
ولكن هذا ليس هو الحال في غزة. إذ يمثل هذا تحدياً بالغ التعقيد، كما قال دبلوماسيون وخبراء إعادة الإعمار.
وتقول دانا عريقات، التي عملت على تقييم مفصل لإعادة إعمار غزة في عام 2014، بعد حرب استمرت 50 يومًا: “انظر إلى وارسو بعد الحرب العالمية الثانية. استغرق الأمر 10 سنوات لإعادة البناء، حتى مع الوصول المفتوح نسبيًا لأعمال إعادة الإعمار. وإذا نظرت إلى برلين، لا تزال هناك بقايا من الانقسام بين الشرق والغرب”.
ويحذر الخبراء من أن الخطط المتضاربة بشأن غزة بعد الحرب والخلاف المتزايد بشأن دور الأمم المتحدة قد يؤديان إلى ترك سكان القطاع يعانون من البؤس لسنوات. وقال البنك الدولي العام الماضي إن مليون فلسطيني على الأقل لن يتمكنوا من العودة إلى ديارهم بسبب الدمار.
الاستقرار ثم الحاجة إلى تمويل كبير
قال جيرالد فييرشتاين، السفير الأمريكي السابق في اليمن في عهد باراك أوباما والباحث البارز في الدبلوماسية الأمريكية في معهد الشرق الأوسط “أول ما تحتاج إليه هو نوع من الاستقرار. أنت بحاجة إلى الحكم والأمن، ونحن لم نصل بعد إلى النقطة التي يمكننا فيها التوصل إلى اتفاق بشأن من سيتولى كل ذلك وكيف سيتم إنجازه”.
وسوف تكون هناك حاجة إلى تشكيل شراكة دولية لجمع عشرات المليارات من الدولارات لإعادة بناء القطاع المدمر، وحل القضايا السياسية المعقدة، الأمر الذي قد يؤدي إلى تأخير المشاريع الحيوية.
وقال فايرشتاين “أعتقد أنه ينبغي أن تتاح الفرصة للمجتمع الدولي للالتقاء على نفس النحو الذي حدث بعد حرب الخليج الأولى في عامي 1991 و1992، عندما نظمنا مؤتمر مدريد وأنشأنا نوعاً من التحالف والشبكة الدولية للعمل على العديد من هذه القضايا. وأعتقد أننا بحاجة إلى القيام بذلك مرة أخرى”.
وقد استغرق إنشاء تحالف متعدد الجنسيات لنقل المساعدات إلى غزة عن طريق البحر من قبرص وبناء رصيف بدائي لتسليم المساعدات عدة أشهر حتى ينطلق، وهو ما يسلط الضوء على التحديات التي يمكن أن تنطوي عليها مشاريع أكبر بكثير.
وتواجه هذه المشاريع، بما في ذلك محطات الطاقة لتوفير الكهرباء لضخ المياه النظيفة ومعالجة مياه الصرف الصحي، وترميم البنوك المنهارة لدفع الرواتب، وإعادة بناء الرعاية الصحية لمئات الآلاف من الجرحى والمرضى، تحديات عند أول عقبة تعترض طريقها.
وتشمل هذه القضايا السياسية الشائكة، بما في ذلك التطورات المزعجة مثل إنشاء الجيش الإسرائيلي لمناطق عازلة على حدود غزة، ومناطق “إطلاق نار حر” حيث يتم إطلاق النار على أي شيء يتحرك، وخط فاصل عبر غزة.
ولكن هناك أيضا مشاكل أكثر جوهرية: رغبة الاحتلال الإسرائيلي في استبدال الأونروا، وكالة المساعدات الرئيسية للأمم المتحدة للفلسطينيين، بمنظمة جديدة تماما.
وأضاف فاييرشتاين أن “تشويه” الاحتلال الإسرائيلي لسمعة الأونروا يشكل مشكلة إضافية لأنها كانت المزود غير الحكومي الرئيسي للخدمات في غزة.
ويؤكد الخبراء أن الخطة الإسرائيلية لتفكيك الأونروا واستبدالها بمنظمة مساعدات جديدة ستكون معقدة للغاية، حيث ستقلب سنوات من الطريقة التي تعمل بها الوكالة في القطاع، وتوجه حوالي 80 في المائة من أموال مساعدات غزة إلى المشاريع.
على سبيل المثال، كانت (الأونروا) تدير مدارس لنحو 300 ألف طفل في غزة قبل اندلاع الحرب الحالية. ومنذ ذلك الحين، دمرت 56 مدرسة على الأقل وتضررت 219 مدرسة أخرى، حسب البنك الدولي.
وتشمل الاحتياجات الملحة إنشاء مرافق ميناء دائمة في غزة، والتي من شأنها أن تستوعب مئات الآلاف أو حتى ملايين الأطنان من مواد إعادة الإعمار.
وقد تثار أسئلة أخرى حول المباني الإدارية بعد أن دمرتها القوات الإسرائيلية ومسحت السجلات المدنية. وبدون هذه السجلات، يصبح كل شيء من توزيع الرواتب وحصص الغذاء إلى تعيين الموظفين أكثر تعقيداً.
السيطرة الإسرائيلية على إعادة الإعمار
كانت المرة الأخيرة التي واجهت فيها غزة صراعًا قريبًا من الحرب الحالية في عام 2014، عندما بلغت الأضرار التي لحقت بالقطاع 4.5 مليار دولار على الأقل، وفقًا لتقديرات ذلك الوقت، مقارنة بالتقييم الحالي البالغ 18.5 مليار دولار الآن.
في السنوات الست التي أعقبت تلك الحرب مباشرة، دخل القطاع نحو ستة ملايين طن من المواد كجزء من جهود إعادة التأهيل. والآن أصبح الدمار أعظم كثيراً، وأبدت (إسرائيل) إحجاماً أعمق عن السماح بدخول المساعدات.
لقد أظهرت عمليات إعادة الإعمار بعد عام 2014 مدى بطء حركة البيروقراطية الدولية، حيث ثبت أن صرف التمويل الذي وعدت به الجهات المانحة كان بطيئا بشكل مؤلم.
وبحلول ديسمبر/كانون الأول 2016، أي بعد ثلاث سنوات من الحرب، لم يتم صرف سوى 50% من مبلغ 3.5 مليار دولار المخصص لإعادة الإعمار. ولم يتم صرف سوى 670 مليون دولار، أو 17%، من احتياجات التعافي المخصصة لتمويل الاحتياجات ذات الأولوية.
وأحد الأسباب الرئيسية وراء بطء الاستجابة هو آلية إعادة إعمار غزة التي تقودها دولة الاحتلال.
إذ سبق أن أنشئت لتكون آلية ثلاثية الأطراف، للتنسيق بين الإسرائيليين والأمم المتحدة والبنك الدولي والسلطة الفلسطينية. ولكن في نهاية المطاف، كان القرار النهائي دائماً في يد الاحتلال الذي فرض قيوداً على كمية مواد البناء التي يمكن إدخالها.
وقبل حرب 2014، التي خلفت أحياء بأكملها في حالة خراب، منعت (إسرائيل) معظم واردات الخرسانة إلى غزة، بزعم أن حماس تستخدم هذه المواد لبناء هياكل دفاعية. وكان الدمار الناجم عن هذا الصراع والحروب السابقة هائلاً لدرجة أن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي قال إن حوالي 2.5 مليون طن من الأنقاض ملأت القطاع.
في الوقت الحاضر، تشير تقديرات البنك الدولي إلى وجود نحو 25 مليون طن من الأنقاض في غزة.
وقد خلقت آلية إعادة إعمار غزة بيروقراطية متصاعدة اعتبرت (إسرائيل) بموجبها آلاف العناصر ذات استخدام عسكري محتمل، أو ذات “استخدام مزدوج”.
وقال ديفيد هاردن، مساعد المدير السابق لمكتب الديمقراطية في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، والذي عمل على إعادة إعمار غزة في عام 2014: “لنفترض أن لديك المال – لذا عليك إحضار الجرافات … وحمولة من الأسمنت – هل سيسمح الإسرائيليون بذلك؟”.
وذكرت منظمة أوكسفام أن البيروقراطية التي تتطلبها آلية إعادة إعمار غزة تعني أنه تم في بعض الأحيان تجنب مشاريع أكثر طموحا، بسبب الطبقات الإضافية من التعقيد.
لكن الآن، أصبحت المشاريع الأكثر تعقيداً ــ مثل محطات تحلية المياه ــ هي ما تحتاجه غزة أكثر من أي وقت مضى.
ورغم أن إعادة بناء البنية التحتية للمياه ليست مكلفة مثل إعادة بناء المساكن، فإنها ستكون مهمة معقدة، بما في ذلك تقييم الأضرار التي لحقت بمئات الكيلومترات من خطوط الأنابيب وإصلاح محطات المعالجة.
وقالت أميرة آكر، باحثة ما بعد الدكتوراه في جامعة لافال الكندية والمتخصصة في علم الأوبئة والصحة البيئية: “بالإضافة إلى وقف إطلاق النار، قبل أن نفكر في إعادة بناء غزة، هناك حاجة إلى رفع الحصار”.
وأضافت أنه قبل الحرب كان ما يقرب من 98 في المائة من مياه غزة غير صالحة للشرب.
إزالة الأنقاض
سوق تنطوي عمليات إعادة الإعمار على التحدي الهائل المتمثل في نقل الأنقاض والمواد الصناعية السامة المحتملة والجثث والقنابل غير المنفجرة.
ويقول خبراء إن التلوث الناجم عن مواد البناء داخل الحطام نفسه سوف يشكل مشكلة كبيرة، وخاصة إذا تم استخدام الأسبستوس، كما هو الحال في مصر. ثم تأتي قضية النفايات – سواء كانت بشرية أو من حيث الجثث.
كما أن الأنقاض ستكون سامة، وستحتوي على بقايا بشرية وكمية كبيرة من الذخائر غير المنفجرة التي سيتعين رسم خرائط لها والتخلص منها بشكل آمن وشفاف.
وإذا كان هناك بعض الذخائر غير المنفجرة بالقرب من مدرسة، أو موقع للمياه، أو محطة للصرف الصحي، فلن تتمكن من فعل أي شيء حتى تقوم بإزالة الأنقاض والذخائر غير المنفجرة، وستحتاج إلى فرق متخصصة لإزالة هذه الذخائر غير المنفجرة.
وغزة أصبحت الآن منطقة خطرة بشكل أساسي، لأن حتى الأسلحة الأكثر حداثة لها “معدل فشل”، حيث أن بعضها لا ينفجر ويشكل خطرا على المزارعين وعمال إعادة الإعمار والمدنيين الذين يبحثون بين أنقاض منازلهم.
وبحسب الخبراء ربما يوجد عشرات الآلاف من الذخائر غير المنفجرة، لذا يتعين تحديد مكان كل منها ثم نزع فتيلها وإزالتها وكل هذه الخطوات معقدة للغاية. وهي ليست حتى إعادة إعمار.
الحاجة إلى التنمية الاقتصادية
على مدى 17 عاماً، عاش ثلثا سكان غزة تحت خط الفقر، بينما نما الناتج المحلي الإجمالي للقطاع بنسبة 1% خلال نفس الفترة.
واليوم أصبح السكان أكثر فقراً وانعداماً للأمن ويفتقرون إلى القدرة على الوصول إلى البنية الأساسية اللازمة للبقاء على قيد الحياة. فقد دُمر ما بين 50 و60 في المائة من منشآت غزة بالكامل، بما في ذلك المدارس والمستشفيات والجامعات.
ويؤمن رامي العزة، الخبير الاقتصادي في مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، بفكرة “إعادة البناء بشكل أفضل” من أجل غزة أكثر أمناً وازدهاراً في نهاية المطاف.
وقال “منذ عام 2007، كان ينظر إلى غزة باعتبارها حالة إنسانية وليست جزءاً من أجندة التنمية. وفي حين أن الاحتياجات الإنسانية لابد وأن تحظى بالأولوية، فقد حان الوقت لإعادة غزة إلى أجندة التنمية”.
وأضاف العزة إن غزة لديها الكثير مما يمكن أن تستفيد منه، نظرا لموقعها ومواردها الطبيعية، فضلا عن مواردها البشرية، مشددا على أن “غزة لا يمكن أن تبقى تحت الحصار في ظل إعادة الإعمار ويجب توحيد الاقتصاد في الضفة الغربية وغزة”.