تحليلات واراء

الجرائم في غزة تعبير عن النفوذ المتزايد للقوميين الأصوليين داخل الجيش الإسرائيلي

أبرز تحقيق فرنسي أن الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في غزة تعبر عن النفوذ المتزايد للقوميين الأصوليين داخل جيش الاحتلال، وغيره من مؤسسات الدولة. وهو صعود مستمر منذ ثلاثين عامًا.

وذكر (أوريان 21) الفرنسي، أنه في سلسلة من التحقيقات الاستقصائية، تحقيقان ومقال افتتاحي، نُشرت بين كانون الأول/ديسمبر 2024 وكانون الثاني/يناير 2025، كشفت جريدة “هآرتس” أن العميد “يهوذا فاخ”، قائد الفرقة 252 في الجيش الإسرائيلي، قد أصدر أوامر صريحة بارتكاب ما يرقى إلى جرائم حرب في قطاع غزة.

وتوثّق المقالات الثلاثة سلسلة من الممارسات المنهجية التي استهدفت المدنيين في بلدات بيت حانون وجباليا ومخيمات اللاجئين المجاورة في قطاع غزة.

وتبرز الوثائق والشهادات منهجية عسكرية تقوم على معاملة الفلسطينيين كـ“حيوانات بشرية”، وتتمحور هذه الممارسات حول “خط وهمي” يجري على طول محور نتساريم، وهو خطٌّ غيرمحدَّد ولم يُبلّغ به الفلسطينيون.

ويتوجب إطلاق النار فوراً على أي شخص يتجاوز هذا الخط -بحسب أوامر العميد “فاخ” الصريحة- بغض النظر عن كونه رجلاً أو امرأة أو طفلاً.

وقد نُقل عنه قوله لجنوده بشكل قاطع: “لا يوجد مدنيون، كلهم إرهابيون”. ولم يُكشف عن هذه الممارسات إلا بعد خمسة أشهر من بدايتها، حين قرر عدد محدود من الجنود والضباط، ممن أصابهم الرعب والاشمئزاز من هذه الممارسات، كسر جدار الصمت والإبلاغ عنها، في حين انصاع الغالبية العظمى لتنفيذ هذه الأوامر.

“نابليون الصغير”

يشير المقال الأول إلى جثث الضحايا الملقاة عند ما يطلق عليه الجنود اسم “محور الجثث”، والتي تتقاسم أشلاءها كلاب ضالة جائعة.

وبعد أن أعلن المتحدث باسم الجيش عن “القضاء على 200 إرهابي” في نفس المنطقة، صرح ضابط من إحدى الكتائب لصحيفة “هآرتس” قائلا: “لم نحص إلا عشرة أعضاء من حركة حماس، من بين كل القتلى”.

ويشير صحفي “هآرتس” يانيف كوبوفيتش إلى أن هذه الاستراتيجية “تتخطى حدود الفرقة عدد 252”، حيث ينقل عن جندي احتياط من الفرقة عدد 90 شهادته عن حادثة أثارت اشمئزازه، يروي فيها كيف أطلقت طائرة هليكوبتر قذيفة قتلت أباً وابنيه العزل حين كانوا يعبرون هذا المحور غير المرئي والذي لم يكونوا يعلمون عنه شيئاً، ويقول الجندي: “لم يمثلوا لنا أي تهديد. ما فعلناه كان شرًّا مطلقاً.”

ولا تنقصنا الشهادات المشابهة، كما نرى في حالة القائد المساعد لإحدى الكتائب حين عارض إطلاق النار على فلسطينيين يحملون أعلاما بيضاء، رد عليه رئيسه بالقول: “لا يعني العلم الأبيض لي شيئا، فنحن نطلق النار للقتل.”

ويقود “يهوذا فاخ” في منطقته حملة يغتال فيها جيش مثقل بالسلاح بدون تمييز آلاف المدنيين. ووصل الأمر إلى حدّ تلقيب بعض الجنود قائدهم بال“نابليون الصغير”.

وبعد استشهاد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس يحيى السنوار في 16 تشرين الثاني/أكتوبر 2024، كان العميد “فاخ” يعبر لمساعديه عن قهره وندمه على عدم تمكنه من الحضور على عملية تقطيع أوصال السنوار و“إزالة القداسة عنه” أمام أنصاره.

ويذكر أحد الضباط أنه قال ذلك خلال “اجتماع تقييمي رسمي ولم يكن مزحاً”. وفي آخر كانون الأول/ديسمبر 2024، صرّح “فاخ” قائلا: “لم نبلغ هدفنا”، والهدف المعني، بحسب ما أسرّ لأقربائه، هو طرد 250 ألف غزّي لا يزالون في المنطقة الواقعة تحت سيطرته.

جيش خاص للإبادة

يكشف التحقيق الثاني كيف اتخذ “يهوذا فاخ” قرارات فردية لم يستشر فيها رؤساءه. كما شكّل “جيشَه الخاص”، وهو عبارة عن فرقة سرية تتكون من جنود تحت أوامره، أغلبهم متطرفون مسيحانيون.. بالإضافة إلى مدنيين جلبهم أخوه “غولان فاخ” إلى غزة، بهدف القضاء على كل ما لم يتم تدميره فعلا في المنطقة، وكل هذا من دون إخطار أحد في الجيش.

وعندما انكشفت هذه الخطط، أعلن المتحدث باسم الجيش أنه “تمت الموافقة على هذه العمليات على كافة المستويات (…) كانت قرارات قائد الفرقة مهنية ومدروسة”، كما أطنى على ذكاء الأخوان “فاخ” الشديد الذين كانا “بمثابة قوة عسكرية مُرخَص لها، تتألف من جنود احتياط مكوَّنين”، كما أن “مزاعم إدخال قائد الفرقة 252 لمدنيين ولسيارات مدنية إلى غزة كلها خاطئة”.

الجيش يكذب باختصار، والعملية التي كان من المفترض أن يُفتح على خلفيتها تحقيق معمق صارت “مُرخّص لها”، ولم يتم تسليط أي عقوبة على العميد المسيحاني إلى هذا اليوم.

نزعة متزايدة النفوذ

عندما حاولت العدالة الإسرائيلية إحالة حراس معتقل “سدي تيمان”، المشتبه بممارستهم التعذيب الممنهج ضد المعتقلين الفلسطينيين، اقتحم نواب وقادة التيار الاستيطاني المسيحاني المعتقل محاولين إعاقة التحقيق بالقوة، دون التعرض لأي ملاحقة قضائية.

كيف يمكن تفسير هذا التراجع المخزي للقيادة العسكرية أمام سلوكيات تتعارض بشكل صريح مع معاييرها الرسمية؟ يكمن الجواب تحديداً في الهوية السياسية للعميد “فاخ”، المنتمي للتيار الاستيطاني المسيحاني (والفاشي) الذي يزداد نفوذه في الجيش الإسرائيلي منذ ثلاثة عقود.

إذ يبدو أن العميد “فاخ” يتمتع بحماية كافية داخل القيادة العسكرية لخدمة أجندته السياسية الخاصة دون إعلام رؤسائه. وعمليًّا، تستسلم القيادة العسكرية. هذا هو الوزن الحالي للنزعة المسيحانية في (إسرائيل)، والتي بالرغم من كونها غير متفشية في المجتمع اليهودي، إلا أنها تفرض أجندتها السياسية يوماً بعد يوم.

في تاريخ (إسرائيل)، لم يكن الجيش متمرّداً من قبل، لكن اليوم، فرضت حركة متمرّدة، متمثلة في الاستيطان المسيحاني، إرادتها على الجيش. وتظهر تحقيقات الصحفي كوبوفيتش أن رئيس العميد “فاخ” المباشر لم يوافق مرؤوسه في ما فعله، لكنه لم يفعل أو لم يستطع فعل شيء للتصدي له.

منذ ثلاثين عاماً – أي منذ مذبحة الحرم الإبراهيمي بالخليل عام 1994 التي قتل فيها “باروخ غولدشتاين” 29 مصليًّا وجرح أكثر من 250، واغتيال “إسحاق رابين” على يد “يغال عمير” بعد ذلك بعام –، لم يتوقف المعسكر المسيحاني عن توسيع نطاق نفوذه، رغم أنه بقي ولمدة طويلة هامشيًّا في الحركة الصهيونية.

“حمار المسيح”

كان أول من ربط الصهيونية بنهاية الأزمنة التوراتية هو الحاخام الأكبر الأول في فلسطين، “إبراهيم إسحاق كوك” (1865 – 1935)، والذي طرح فكرة مفادها أن الصهيونية، رغم كونها عقيدة قومية علمانية في بداياتها، تمثل “حمار المسيح”، بمعنى “المغفل المفيد” اليوم.

إذ تنص التوراة على أن المسيح سيأتي راكباً على حمار، وبالنسبة لكوك، كان المشروع الصهيوني يحمل مجيء المسيح على ظهره دون أن يدري.

أسس كوك المدرسة التلمودية “مركز هاراف” (المركز الربّاني) عام 1924 لنشر أفكاره، وظلت حركته هامشية لفترة طويلة داخل الحركة الصهيونية، حتى في صفوف المتدينين، حيث كانت الحركة السياسية التي تسمى بالمزراحية أقل قومية وعدائية بكثير من تيار حزب العمل أو ما يسمى بالتيار “المراجعي”، الذي وحّد اليمين واليمين المتطرف.

لكن شكّل النصر “المعجزة” خلال حرب حزيران/يونيو 1967 نقطة تحول أسفرت عن موجة من الصوفية تغذيها فكرة “إسرائيل الكبرى” (بمعنى فلسطين التاريخية).

وبقيادة “تسفي يهوذا كوهين كوك” (ابن كوك الأكبر)، الذي عزّز الرؤية العنصرية اليهودية، بدأت المسيحانية في التجذر، وأصبحت مدرسته الربانية ركيزة “كتلة الإيمان”، وهي المحرك السياسي للمسيحانية اليهودية.

اختفت هذه الكتلة في الأثناء، لكن ورثتها كثر، نجدهم اليوم في تيارات مختلفة: في الأحزاب الفاشية لإيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وكذلك في حزب الليكود والأحزاب الدينية الأرثوذكسية، ويجسّدون معاً صعود قومية مسيحانية متطرفة أصبحت فاعلاً سياسياً واجتماعياً مهما، وذات تأثير يتجاوز بكثير ما يسمى بالمعسكر الصهيوني الديني.

كيف حصل ذلك؟ أولاً، لقد تمكن هذا المعسكر من توظيف منطق الاحتلال أفضل من غيره. وعلى غرار جميع الأصوليين، انتقى اليهود الإسرائيليون منهم، في تفسيرهم الحرفي للكتاب المقدس، النصوص التوراتية الأكثر هوياتية. فكل شيء مكتوب مسبقاً، وإذا أحسنا التفسير، سيكون الله في صفنا.

ولم تستطع ولم ترد أي حكومة إسرائيلية، سواء يمينية أو يسارية، كبح جماح المسيحانيين. خلال مذبحة الخليل سنة 1994، اقترح مستشارو رئيس الوزراء “إسحاق رابين” اغتنام الفرصة لإجلاء 80 مستوطناً مسيحانيًّا متحصناً في قلب المدينة. من سيعارض ذلك في هكذا ظروف؟ لكن رابين ماطل، ثم تنازل عن الأمر. ومنذ تلك الفترة، تضاعف عدد المستوطنين أكثر من ثلاث مرات في الخليل وغيرها، وازداد معه ثقل المسيحانيين.

أخيراً، نجح المسيحانيون في وضع منظومة لوجستية متطورة تزايد تأثيرها باستمرار. في كتابه “باسم الهيكل” يفسّر “شارل أندرلين” كيف نجح اليمين المتطرف الكولونيالي المسيحاني، من خلال استخدام استراتيجية واضحة المعالم تجمع بين الحرب الثقافية والاستيلاء على مواقع استراتيجية في مجالات رئيسية وسط المجتمع، في احتلال مكانة سياسية وإنتاج تأثير مجتمعي، خاصة بين الشباب، وهو ما كان من الصعب تصوره قبل خمسين عامًا.

فعندما دعا شلومو غورين، الحاخام الأكبر للجيش، في مساء يوم احتلال المسجد الأقصى في يونيو/حزيران 1967، إلى هدمه لإعادة بناء الهيكل على أنقاضه، اعتبره 99% من الإسرائيليين مجنوناً خطيراً في ذلك الوقت. أما اليوم، فتعمل العديد من المنظمات على تعزيز فكرة “إعادة بناء الهيكل”، والمدافعون عنها هم جزء من الحكومة.

اكتساح القطاع العام

وقد تخطى المعسكر المسيحاني الميدان التعليمي الديني ليكتسح كذلك القطاع العام. وهو يمتلك اليوم وسائل إعلام متعددة – مكتوبة ومسموعة ومرئية —، وزاد عدد نوابه ودعمه المالي، وسيطر مؤخرا على رتب مهمة جدا في الجيش.

يعود الأمر إلى عام 1953 مع أول “يشيفات هيسدر” (أكاديمية عسكرية دينية)، ومهمتها تقديم خدمة عسكرية يتعلم فيها الشباب اليهودي الأرثدوسكي استعمال السلاح بالتوازي مع دراسة التوراة. في 1967، لم تكن هناك سوى ثلاث أكاديميات، وفي 1990 أصبح عددها 13. أما اليوم، فيوجد قرابة 90 أكاديمية! وقد سيطرت “مركز هاراف” وأخواتها على هذه الأكاديميات، المتواجدة غالبا بالمستوطنات في الضفة الغربية.

يتسم فيها التعليم بعنصرية يهودية مخيفة، خاصة تجاه العرب والمسلمين. في عام 2000، صرّح حاخام معروف تابع لهذه الحركة، وهو “اسحاق غينزبورغ”، في ملحق جريدة “معاريف” أن “للإنسان العربي روح حيوان”.

وبعد عشرين عاماً، قال الحاخام “غيورا ريدل”، وهو من رواد مدرسة “حسدر بني ديفيد” الدينية، للمجنّدين إن “أيديولوجيا هتلر صحيحة 100%، لكنه أخطأ في اختيار الهدف”، بمعنى أنه كان عليه إبادة المسلمين وليس اليهود.

وفي مثال آخر، صرح زميله من نفس المدرسة “إليزير قشتال” على القناة 13 الإسرائيلية أنه “يؤمن بالعنصرية” مضيفا أن “للعرب خلل جيني.” ولم يتلق أي واحد من هؤلاء الحاخامات أي توبيخ أو عقاب.

لا ينبغي أن نندهش عندما نرى أن أغلب جنود الفيالق “إثارة للمتاعب” في صفوف الجيش الإسرائيلي، أولئك الذين يقتّلون بدون شفقة المدنيين من الأطفال والنساء والرجال، والذين نراهم يتباهون بذلك على وسائل التواصل الاجتماعي الإسرائيلية، هم خريجو هذه المدارس المسيحانية العسكرية.

اليوم، 40% من ضباط المشاة المتخرجين من أكاديميات تدريب الضباط ينحدرون من المجتمع الديني المتطرف الإسرائيلي، في حين لا يمثل هذه الحركة إلا 13 نائبا من مجمل 120 في البرلمان.

ويطالب عدد كبير من هؤلاء الضباط قبل كل معركة جنودهم بالصلاة لكي ينسف الإله اليهودي أعداءهم نسفا.

وعلى سبيل المثال، تتكوّن كتيبة “نتساخ يهودا” (“خلود يهوذا”) بنسبة 60% من متخرجي هذه الأكاديميات المسيحانية العسكرية، ويُتهم جنودها بانتظام بارتكاب جرائم بحق الفلسطينيين، فقد تم سجن أحدهم على خلفية تعذيب فلسطينيين باستخدام مولدات كهربائية، وتم سجن أربعة آخرين بعد اغتصابهم لـ“مشتبه فيه”. بالإضافة إلى آخرين لضربهم حتى الموت شيخا فلسطينيا يبلغ من العمر 78 عاما. ولم تتم ملاحقة أي منهم.

أخيراً وليس آخراً: عندما كان شاباً، خضع يهودا فاخ لتدريب عسكري خاص في أكاديمية بني دافيد، وهي الأكاديمية نفسها التي تعلّم طلبتها أن هتلر أخطأ الهدف. وبعد سنوات قليلة، تمكن من توظيف خبرته لتدريب ضباط في الجيش الإسرائيلي عندما تولى قيادة أكاديميتهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى