التراث الثقافي والديني في غزة أصبح أطلالاً بعد عام من حرب الإبادة
لم يسلم التراث الثقافي والديني لقطاع غزة المحاصر من الدمار الذي خلفته حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، حيث تعرضت المتاحف والمساجد والكنائس والمواقع الأثرية للتدمير أو الضرر الشديد.
بحلول شهر سبتمبر/أيلول، أكدت منظمة اليونسكو الدولية الأضرار التي لحقت بـ 69 موقعًا للتراث الثقافي منذ بدء حرب الإبادة على غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وتشمل هذه المواقع 10 مواقع دينية، و43 مبنى ذا أهمية تاريخية وفنية، ومستودعين للممتلكات الثقافية المنقولة، وستة آثار، ومتحف واحد، وسبعة مواقع أثرية.
تدمير واسع
قالت اليونسكو إن تقييمها الأولي باستخدام صور الأقمار الصناعية يظهر أن 29% (20 موقعًا) من هذه المواقع تبدو مدمرة، و20% (14 موقعًا) متضررة بشدة، و51% (35 موقعًا) متضررة بشكل متوسط.
وذكرت الوكالة التابعة للأمم المتحدة إنها لم تتمكن إلا من إجراء تقييمات عن بعد للأضرار الناجمة عن الحرب. وهذا يعني أن حجم الأضرار على الأرض قد يكون أكثر خطورة.
وفي وقت سابق من هذا العام، ظهرت تقارير تؤكد أن جيش الاحتلال الإسرائيلي نهب أيضًا آثارًا فلسطينية في غزة.
واتهم باحثون في جامعة بيرزيت بالضفة الغربية المحتلة قوات الاحتلال الإسرائيلي بنهب أكثر من 3 آلاف قطعة أثرية من جامعة الإسراء في غزة في وقت سابق من العام الجاري قبل هدم الموقع للتغطية على السرقة.
وقد كانت الحملة العسكرية الإسرائيلية اليوم كارثية لدرجة أن المشهد الحضري في غزة أصبح من غير الممكن التعرف عليه تقريباً.
لقد كانت غزة، الواقعة بين مصر وبلاد الشام، بمثابة مفترق طرق تاريخي للإمبراطوريات، حيث تركت كل منها بصماتها.
إن البقايا الثقافية للحضارات القديمة، مثل تلك التي تركها المصريون والآشوريون والرومان والمسيحيون والمسلمون، إما مدمرة أو متضررة أو معرضة للخطر.
وقال المؤرخ العثماني الدكتور يعقوب أحمد “إن هذا المحو الثقافي هو جزء متعمد من المشروع الصهيوني، الذي يهدف إلى فصل الفلسطينيين عن جذورهم التاريخية والثقافية مع تعزيز رواية تنكر التاريخ الفلسطيني تمامًا”.
وحذر من أن دولة الاحتلال الإسرائيلي تمارس “إبادة ثقافية” وتمحو الماضي وإمكانية الأجيال القادمة في الحفاظ على تراثها.
محو الروابط الفلسطينية بالأرض
يعتقد عمر عبد الحكيم حمد، الكاتب الفلسطيني الذي طرد بالقوة من منزله في بيت حانون شمال قطاع غزة، أن هدف دولة الاحتلال هو محو كل الروابط الفلسطينية بالأرض.
وقال حمد “يستهدف الاحتلال الإسرائيلي بشكل متعمد وتدمر جميع المعالم المرتبطة بحق الشعب الفلسطيني في فلسطين، في محاولة لمحو الهوية الفلسطينية وطمسها”.
وأضاف أن “(إسرائيل) تستخدم كل الوسائل الممكنة، القوية والخفيّة، لمحو كل ما يرتبط بروح الشعب الفلسطيني، وتقويض أي حجة أو وسيلة لنا للدفاع عن أنفسنا”.
لقد خسر عمر عمله وشاهد عدد لا يحصى من أفراد عائلته وأصدقائه يقتلون في الحرب الإسرائيلية التي استمرت لمدة عام، لكنه مصمم على أن الفلسطينيين سيعيدون بناء ما يسعى الاحتلال إلى محوه.
وأضاف “سنروي لأطفالنا والأجيال القادمة كل ما فعلوه بنا. وسينهض جيل فلسطيني مثقف ومنتقم، يحمل القلم في يده اليسرى لفضح الاحتلال والبندقية في يده اليمنى للقتال والانتقام من هذا العدو الصهيوني الدنيء”.
وفيما يلي ملخص لبعض المواقع التاريخية التي دمرت أو تضررت في العام الماضي.
قالت وزارة الشؤون الدينية في غزة في وقت سابق من الشهر الجاري إن الجيش الإسرائيلي هدم 814 مسجدا من أصل 1245 مسجدا في غزة وألحق أضرارا بالغة بـ 148 مسجدا منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023.
بينهم المسجد العمري الكبير، أحد المعالم الأثرية في غزة وأحد أقدم المساجد في المنطقة، تعرض لتدمير كبير جراء القصف الإسرائيلي في 8 ديسمبر 2023.
تم بناء المسجد في الأصل في أوائل القرن السابع، وتم تسميته على اسم عمر بن الخطاب، الخليفة الثاني للإسلام وخليفة النبي محمد.
يتميز التصميم الأنيق للمسجد بالحجر الأبيض والأقواس المدببة والمئذنة المثمنة العالية التي يحيط بها شرفة خشبية منحوتة تعلوها هلال.
وفي وقت مبكر من الحرب، استهدفت القوات الإسرائيلية مسجد السيد الهاشم، الذي يتميز بساحة مفتوحة محاطة بأربعة مظلات.
وفي داخل القسم الغربي من المسجد يوجد قبر هاشم بن عبد مناف جد النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي توفي في غزة في رحلة صيفية.
تم بناء المسجد في الأصل على يد المماليك، ثم تم ترميمه في عام 1850 على يد السلطان العثماني عبد المجيد الأول.
وبموجب اتفاقية لاهاي لعام 1954 بشأن حماية الممتلكات الثقافية في حالة نزاع مسلح، والتي صادقت عليها (إسرائيل)، فإن الدول ملتزمة بحماية المواقع الثقافية أثناء النزاعات.
وقد تجاهلت دولة الاحتلال هذا الالتزام إلى حد كبير.
الكنائس
لم تنج الكنائس القديمة في قطاع غزة من تداعيات الحملة العسكرية الإسرائيلية، ومنذ بدء الحرب تعرضت الكنائس الثلاث في غزة للقصف والأضرار.
يعود تاريخ كنيسة القديس بورفيريوس اليونانية الأرثوذكسية إلى القرن الخامس، وهي واحدة من أقدم أماكن العبادة في غزة وتعتبر واحدة من أقدم الكنائس في العالم المسيحي.
ويعود تاريخه إلى حوالي عام 407م وتم تحويله إلى مسجد في القرن السابع قبل أن يتم ترميمه إلى وضعه السابق من قبل الصليبيين في القرن الثاني عشر.
وتعرضت الكنيسة لأضرار بالغة خلال غارة جوية إسرائيلية قاتلة على مستشفى الأهلي المعمداني المجاور والذي يبلغ عمره 141 عامًا، وهو أقدم مستشفى في القطاع.
كما تعرض مسجد كاتب الولاية المجاور له، والذي بني على الطراز العثماني في القرن الخامس عشر، لأضرار في نفس الهجوم.
واستُهدف القديس بورفيريوس مرة أخرى في 30 يوليو/تموز من هذا العام، في هجوم وصفه إسماعيل ثوابتة، مدير مكتب الإعلام الحكومي في غزة، بأنه “جريمة ضد الأديان”.
وفي أعقاب هجوم عام 2024، أصدر مجلس الكنائس العالمي، الذي تعد كنيسة القديس بورفيريوس عضوًا فيه، بيانًا يدين الهجوم.
وقال متحدث باسم اليونسكو إن المنظمة “تشعر بقلق عميق إزاء تأثير الحرب الإسرائيلية على التراث الثقافي في قطاع غزة”.
وأضاف أن “اليونسكو تدين الأضرار والتدمير الذي لحق بمواقع التراث الثقافي وكذلك عواقبه على الحياة المدنية والاقتصادية”.
مواقع أخرى في خطر
تشمل المواقع التراثية الأخرى التي تأثرت بالحملة العسكرية الإسرائيلية أرض المحاربين، المعروفة أيضًا باسم “المقبرة الرومانية”.
تم اكتشاف آثارها في عام 2023 من قبل فريق من علماء الآثار الفلسطينيين والفرنسيين بعد أن عثر عمال البناء على مقابر في الموقع أثناء بناء المنازل.
وتم اكتشاف ما لا يقل عن 134 مقبرة، يعتقد أن تاريخها يعود إلى الفترة من 200 قبل الميلاد إلى 200 بعد الميلاد، في مقبرة رومانية، وتحتوي العديد منها على هياكل عظمية سليمة.
ومن بين المكتشفات تابوتين مصنوعين من الرصاص مزخرفين بشكل متقن، أحدهما مزين برسومات حصاد العنب والآخر مزين بصور الدلافين.
وبحسب منظمة اليونسكو فإن الموقع مدرج ضمن المواقع المتضررة.
ولكن لا توجد تفاصيل كثيرة حول ما قد يكون لحق بالموقع من أضرار وما إذا كان الجيش الإسرائيلي قد نهب الموقع الأثري.
ولم تسمح (إسرائيل) للخبراء الأجانب بدخول الموقع، كما أن قيام علماء الآثار الفلسطينيين بمسح الموقع يشكل خطرا كبيرا.
وفي أواخر عام 2023، أظهرت لقطات فيديو تم تداولها عبر الإنترنت تدمير حمام السمرة التاريخي في غزة بعد قصف إسرائيلي عنيف.
الحمام المذكور عمره حوالي 1000 عام وتم تجديده عدة مرات، آخرها من قبل السلطة الفلسطينية في تسعينيات القرن العشرين.
كانت مدينة غزة تحتوي في السابق على ستة حمامات، ولكن تم تفكيك العديد منها لاستيعاب التوسع السريع للمدينة على مدى القرن الماضي، وخاصة بعد نكبة عام 1948 ، والتي تشير إلى التطهير العرقي لفلسطين من قبل الميليشيات الصهيونية لإفساح المجال لإنشاء إسرائيل.
كما تأكد تعرض متحف القرارة المعروف بمتحف خانيونس، والذي أنشأه محمد ونجلاء أبو لحية عام 2016، للتدمير بنيران جيش الاحتلال الإسرائيلي.
كان المتحف يضم ما يقارب 3000 قطعة أثرية تعود إلى العصر الكنعاني وحتى الحضارات المختلفة في العصر البرونزي التي سكنت غزة وبلاد الشام.
وكل ما تبقى من مجموعاته هو قطع فخارية وزجاج محطم بعد أن تعرض لغارة إسرائيلية في أكتوبر/تشرين الأول.