تحليلات واراء

غزة وموت وسائل الإعلام الغربية

أدت حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة إلى قتل عدد من الصحفيين أكبر من أي صراع آخر في الذاكرة الحديثة، فلماذا لا تزال وسائل الإعلام الغربية صامتة؟.

يوم الأربعاء الماضي، اغتالت قوات الاحتلال الإسرائيلي، الصحفيين إسماعيل الغول ورامي الريفي خلال تغطية صحفية في مدينة غزة.

وكان الغول، الذي حظيت تقاريره على قناة الجزيرة بشعبية كبيرة بين المشاهدين العرب، يرتدي سترة الصحافة وقت قتله.

وترفع عمليات القتل الأخيرة إجمالي عدد الصحافيين الشهداء إلى أكثر من 150 صحفيا على الأقل خلال الإبادة الجماعية الحالية في غزة، وفقاً لتقديرات أكثر تحفظاً.

ولم يتسبب أي صراع عالمي في قتل هذا العدد من الصحفيين في الذاكرة الحديثة.

استهداف الصحفيين بالقتل

لدى الاحتلال الإسرائيلي تاريخ طويل في استهداف الصحفيين بعنف، لذا فإن إجمالي الشهداء من الصحفيين في غزة ليس مفاجئًا بالضرورة.

في الواقع، وثق تقرير صادر عن لجنة حماية الصحفيين الدولية في عام 2023 “نمطًا مستمرًا لعقود من الزمن” من استهداف الاحتلال الإسرائيلي وقتل الصحفيين الفلسطينيين.

على سبيل المثال، خلص تحقيق أجرته هيومن رايتس ووتش إلى أن دولة الاحتلال الإسرائيلي استهدفت “صحفيين ومرافق إعلامية” في أربع مناسبات منفصلة في عام 2012. وخلال الهجمات، استشهد صحفيان، وأصيب كثيرون آخرون.

في عام 2019، خلصت لجنة تابعة للأمم المتحدة إلى أن إسرائيل “أطلقت النار عمداً” على اثنين من الصحفيين الفلسطينيين في عام 2018، مما أدى إلى قتلهما.

ومنتصف عام 2022، أطلقت إسرائيل النار على الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة في الضفة الغربية مما أدى إلى مقتلها.

وقد حاولت دولة الاحتلال إنكار مسؤوليتها، كما تفعل دائمًا تقريبًا بعد ارتكاب أي فظائع، لكن الأدلة المصورة كانت ساحقة، واضطرت “إسرائيل” إلى الاعتراف بالذنب.

الإفلات من العقاب

لم تقع أي عواقب على الجندي الذي أطلق النار على الصحفية أبو عاقلة، الذي كان يرتدي سترة الصحافة وخوذة الصحافة، أو على الإسرائيليين المتورطين في الحوادث الأخرى التي استهدفت الصحفيين.

وأشارت لجنة حماية الصحفيين إلى أن قوات الأمن الإسرائيلية تتمتع “بحصانة شبه شاملة” في حوادث الاعتداء على الصحفيين.

ونظراً لهذا السياق الأوسع، فإن استهداف الاحتلال الإسرائيلي للصحفيين في غزة أثناء الإبادة الجماعية الحالية ليس مفاجئاً حقاً، أو خارجاً عن المألوف.

لكن ما يثير الدهشة حقا، بل والصدمة أيضا، هو الصمت النسبي للصحافيين الغربيين.

في حين كانت هناك بالتأكيد بعض التقارير والتعاطف في أميركا الشمالية وأوروبا، وخاصة من جانب منظمات المراقبة مثل لجنة حماية الصحفيين، إلا أن هناك القليل من الشعور بالتضامن الصحفي، وبالتأكيد لا يوجد شيء يقترب من الغضب الواسع النطاق والضجة حول التهديد الذي تشكله تصرفات الاحتلال الإسرائيلي على حريات الصحافة.

وحتى عندما أوردت وسائل الإعلام الغربية تقارير عن مقتل صحفيين فلسطينيين منذ بداية الحرب الحالية، فإن التغطية الإعلامية كانت تميل إلى إعطاء “إسرائيل” فرصة الشك، وغالبا ما تصور عمليات القتل على أنها إصابات غير مقصودة في الحرب الحديثة.

كما أن الاعتماد الكبير للصحافة الغربية على المصادر المؤيدة ل”إسرائيل” أدى إلى تجنب استخدام الصفات والإدانات الملونة.

وعلاوة على ذلك، فإن الاعتماد المفرط على المصادر المؤيدة ل”إسرائيل” جعل من الصعب في بعض الأحيان تحديد أي طرف من أطراف الصراع كان مسؤولاً عن عمليات قتل محددة.

حالة فريدة من نوعها؟

قد يفترض المرء هنا أن وسائل الإعلام الغربية كانت ببساطة تحافظ على تفانيها لمبادئ التغطية الإعلامية الغربية المعلنة من حيث الانفصال والحياد.

ولكن في حالات أخرى، أظهر الصحافيون الغربيون أنهم قادرون بالفعل على إثارة ضجة كبيرة، وإظهار التضامن أيضاً.

إن مقتل 12 صحفياً من مجلة شارلي إبدو في عام 2015 يوفر مثالاً مفيداً على هذه النقطة.

وقد أعقب ذلك الهجوم مشهد إعلامي حقيقي، حيث بدا وكأن مؤسسة الصحافة الغربية بأكملها اتحدت للتركيز على الحدث.

وفي غضون أسابيع، صدرت آلاف التقارير، وانتشر وسم التضامن (“أنا تشارلي”) على نطاق واسع، وتدفقت البيانات ومشاعر التضامن من الصحفيين الغربيين ومنافذ الأخبار والمنظمات المكرسة لمبادئ حرية التعبير.

على سبيل المثال، وصفت جمعية الصحافيين المحترفين الأميركية الهجوم على مجلة شارلي إبدو بأنه “بربري” و”محاولة لقمع حرية الصحافة”.

وأصدرت منظمة فريدوم هاوس إشادة مماثلة قاسية، ووصفت الهجوم بأنه “مروع”، مشيرة إلى أنه يشكل “تهديدًا مباشرًا للحق في حرية التعبير”.

قدمت منظمة القلم الأميركية والجمعية الوطنية العلمانية البريطانية جوائز لمجلة شارلي إبدو، كما تبرعت مجموعة الغارديان الإعلامية بمبلغ ضخم للمجلة.

ازدواجية معايير

إن الصمت النسبي والهدوء الذي أبداه الصحفيون الغربيون إزاء قتل عشرات الصحفيين الفلسطينيين في غزة أمر صادم بشكل خاص عندما ننظر إلى السياق الأوسع للحرب التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على الصحافة، والتي تهدد جميع الصحفيين.

وفي أكتوبر/تشرين الأول، وحوالي الوقت الذي بدأت فيه الحرب الحالية، أبلغت سلطات الاحتلال وكالات الأنباء الغربية أنها لن تضمن سلامة الصحفيين الذين يدخلون غزة.

ومنذ ذلك الحين، فرضت سلطات الاحتلال حظراً على دخول الصحفيين الدوليين، حتى أنها عملت على منعهم من دخول غزة خلال فترة توقف قصيرة للحرب في نوفمبر/تشرين الثاني 2023.

وربما يكون الأمر الأكثر أهمية هو أن سلطات الاحتلال استخدمت نفوذها في الغرب لتوجيه والسيطرة على روايات الأخبار الغربية حول الحرب.

وفي كثير من الأحيان، امتثلت وسائل الإعلام الغربية بكل طاعة لتكتيكات التلاعب الإسرائيلية.

على سبيل المثال، مع تصاعد الغضب العالمي ضد دولة الاحتلال في ديسمبر/كانون الأول 2023، نشرت تل أبيب تقارير كاذبة عن اغتصاب جماعي ومنهجي للنساء الإسرائيليات من قبل مقاومين فلسطينيين في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

وقد انخدعت وسائل الإعلام الغربية، بما في ذلك صحيفة نيويورك تايمز، فحاولت التقليل من أهمية الغضب المتزايد ضد دولة الاحتلال، وبدأت في تسليط الضوء بشكل بارز على قصة “الاغتصاب المنهجي”.

ويشكل ذلك وغيره من الأمثلة على التلاعب الإسرائيلي بسرديات الأخبار الغربية جزءاً من نمط أوسع من التأثير يعود تاريخه إلى ما قبل الحرب الحالية.

وتوصلت إحدى الدراسات التجريبية إلى أن دولة الاحتلال تقوم بشكل روتيني بتوقيت هجماتها، وخاصة تلك التي من المرجح أن تقتل مدنيين فلسطينيين، بطرق تضمن تجاهلها أو التقليل من أهميتها من قبل وسائل الإعلام الأميركية.

وخلال الإبادة الجماعية الحالية، كانت المنظمات الإخبارية الغربية تميل أيضًا إلى تجاهل النمط الواسع من الرقابة على المحتوى المؤيد لفلسطين على وسائل التواصل الاجتماعي، وهي حقيقة ينبغي أن تثير قلق أي شخص مهتم بحرية التعبير.

ومن السهل الإشارة إلى عدد قليل من التقارير الإخبارية والتحقيقات الغربية التي انتقدت بعض الإجراءات الإسرائيلية أثناء الإبادة الجماعية الحالية.

لكن هذه التقارير ضاعت في بحر من الاستسلام للروايات الإسرائيلية والتصورات المؤيدة لإسرائيل والمعادية للفلسطينيين بشكل عام.

تأطير مؤيد لإسرائيل ومعاد للفلسطينيين

أظهرت العديد من الدراسات، بما في ذلك التحليلات التي أجراها مركز مراقبة وسائل الإعلام وموقع “إنترسبت” ، أدلة دامغة على وجود تأطير مؤيد لإسرائيل ومعاد للفلسطينيين في التقارير الإخبارية الغربية عن الحرب الحالية.

ويقدم العديد من الصحفيين في الولايات المتحدة وأوروبا أنفسهم باعتبارهم رواة للحقيقة، ومنتقدين للسلطة، ومراقبين، وأنهم يسعون بشكل ملائم إلى تحقيق العدالة والدقة والشمول والتوازن والحياد والانفصال.

لكن هذه هي الأسطورة الكبرى للصحافة الغربية ثبت كذبها في وقت تشير مجموعة كبيرة من الأدبيات العلمية إلى أن وسائل الإعلام الغربية لا تقترب حتى من الالتزام بمبادئها المعلنة.

وفي الخلاصة فإن حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة كشفت بشكل أكبر عن زيف بعض وسائل الإعلام.

إذ باستثناءات قليلة، تخلت وسائل الإعلام في أمريكا الشمالية وأوروبا عن مبادئها المعلنة وفشلت في دعم الزملاء الفلسطينيين الذين يتم استهدافهم وقتلهم بشكل جماعي.

وفي خضم هذا الفشل الذريع والأبحاث المكثفة التي تشير إلى أن وسائل الإعلام الغربية بعيدة كل البعد عن تحقيق أهدافها، يتعين علينا أن نسأل ما إذا كان من المفيد الاستمرار في الحفاظ على أسطورة المثل الصحفي الغربي، والتساؤل: هل الصحافة الغربية كما يتصورها البعض ميتة؟.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى