سياسة الخيانة: جنين وعباس وتجاوز كل الخطوط الحمراء
منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، تشن السلطة الفلسطينية “عملية حماية الوطن”، وهي حملة واسعة النطاق تستهدف محاولة تفكيك المقاومة الفلسطينية في جنين في شمال الضفة الغربية.
وتهدف العملية إلى نزع سلاح الفصائل، التي تتألف في المقام الأول من الشباب في مخيمات اللاجئين، والتي تحصنت في جنين ومناطقها الريفية في العامين الماضيين.
خلال العملية، تم تداول مقطع فيديو على نطاق واسع يظهر مقاتلاً فلسطينياً شاباً في جنين وهو يواجه أفراداً من قوات الأمن الفلسطينية، وهي لحظة مثقلة بالتوترات التي تمزق المجتمع الفلسطيني. صوته ـ الثابت، الحزين، يخترق المشهد كسلاح متهماً قوات الأمن الفلسطينية بالخيانة والغضب من تفكك الهدف الوطني المشترك.
ويخجل الشاب من تصرفات قوات الأمن الفلسطينية، ويستحضر ذكرى الجنود الإسرائيليين الذين سقطوا أو أصيبوا على نفس الطريق الذي تستخدمه القوات الآن لفرض سيطرتها على مخيم اللاجئين في جنين ـ وهو تذكير بالمعارك التي خاضتها المقاومة ضد عدو قوي للغاية.
إنه صوت يدعو قوات الأمن الفلسطينية إلى استعادة رجولتها برفض محاربة المقاومة، والانضمام إليها. وتمتلئ كلماته بالألم والإلحاح، وهو يتهمهم بالتخلي عن رجولتهم ويتوسل إليهم ألا يرغموا المقاومة على استخدام القوة المميتة.
وبمزيج من الغضب وضبط النفس، يشير إلى قوة المقاومة الفلسطينية في جنين ــ العبوات الناسفة المرتجلة التي تنتظر، ولم تنفجر، وهو ضبط مدروس يهدف إلى نقل القوة والغرض، ولكن أيضا الاختيار بعدم تفجيرها في قوات الأمن الفلسطينية الغازية.
وبحلول نهاية المقطع، يرتفع صوته إلى ذروة مؤلمة: ” يا حيف”، يصرخ، في رثاء يتردد صداه بثقل الخيانة والخسارة، وينطق به في لحظات من خيبة الأمل العميقة وعدم التصديق.
إن سياسة السلطة الفلسطينية تقوم على الخيانة الحميمة، حيث تختلط خطوط المعركة، ويخرج المقاتلون من نفس الشوارع، ويتحدثون نفس اللهجة، ومع ذلك يخوضون الحرب من أجل مستقبل لا يمكن أن يكون أكثر معارضة.
إن قوة قوات الأمن الفلسطينية لا تكمن في قدرتها العملياتية أو التدريب الأميركي الذي تقدمه في الأردن وأريحا. بل تكمن قوتها الحقيقية في التآكل البطيء والمنهجي للإيمان والثقة في المقاومة ــ وهي عملية متعمدة بقدر ما هي مستمرة.
ومن خلال إرسال عناصر الأمن لمواجهة الشباب المقاومين، تدير قوات الأمن الفلسطينية مسرحاً مأساوياً للدماء الفلسطينية التي تراق في معارك لا يوجد فيها فائزون.
إن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس من خلال تبنيه علناً لسياسة التواطؤ، يخلق درعاً متناقضاً: فالخيانة، سواء اعترف بها أو اعترف بها، تصبح استراتيجية لتجنب المساءلة تماماً.
لقد دفع عباس عمدا إلى تفكيك المحرم الذي كان قائماً في السابق ضد المواجهة المباشرة بين قوات الأمن الفلسطينية وفصائل المقاومة في شمال الضفة الغربية.
واعتمادا على نهجها الذي يستند إلى أن التنسيق الأمني والتعاون مع الاحتلال يضمن البقاء ـ في الوقت الحالي ـ تجرؤ السلطة الفلسطينية الآن على حشد قواتها في قلب مخيم جنين للاجئين.
وهناك تطلق النار على أحد زعماء المقاومة الرئيسيين، وتسفك دماء طفل فلسطيني في هذه العملية، وتتعهد بالبقاء حتى يتم نزع السلاح من جنين ومخيمها.
لسنوات عديدة، سادت بين الفلسطينيين ــ وخاصة أولئك الذين كرسوا أنفسهم للمقاومة ــ قاعدة غير معلنة: تجنب الاقتتال الداخلي، وفوق كل شيء إراقة الدماء الفلسطينية.
وكان هذا المبدأ، أكثر من مجرد فكرة مجردة، بمثابة أخلاق توجيهية، حتى في لحظات الضغط التي لا تطاق. وعندما حاصرت قوات الأمن الفلسطينية باسل الأعرج ورفاقه، كان بوسعه أن يرد بقوة، ويدخل في معركة بالأسلحة النارية ربما كانت لتحوّل اللقاء إلى مأساة أخرى بين الفلسطينيين والفلسطينيين. ولكن باسل اختار الاستسلام، وتحمل الاعتقال والتعذيب بدلاً من انتهاك الحدود الهشة التي كانت تربط بين مجتمع ممزق ومحاصر.
غير أن السلطة الفلسطينية، التي تتوق دوماً إلى تلبية مطالب الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة، أصبحت على استعداد متزايد للمقامرة بشبح الحرب الأهلية الداخلية، إن لم يكن بالحرب الأهلية الدموية ذاتها.
وهي مستعدة لإراقة الدماء الفلسطينية ـ ليس فقط لإظهار قدرات تكتيكاتها في مواجهة المقاومة، بل وأيضاً لاستغلال الجاذبية الرمزية والأخلاقية لشبح قتل الأخوة، وهو سلاح لا يقل قوة عن أي سلاح آخر في الحفاظ على قبضتها على السلطة. وقد اختارت أن تفعل ذلك في لحظة حيث تتراجع حركات المقاومة، وتتصاعد القوى التي تدافع عن البقاء من خلال التعاون.
لا شك أن هذه العملية محفوفة بالمخاطر، وتحمل في طياتها احتمالات حقيقية بأن تأتي بنتائج عكسية، مع تصاعد وتيرة الاقتتال الداخلي، واستهداف الكوادر المشاركة في عملية قوات الأمن الفلسطينية ــ أو أولئك الذين أمروا بها ــ أصبح أكثر وضوحا، وأكثر مبررا بالنسبة للكثيرين.
وتراهن السلطة الفلسطينية على أن المقاومة وكوادرها، مثل باسل الأعرج، سوف تختار تجنب إراقة الدماء الداخلية، وتختار الاستسلام، حتى على حساب الاعتقال والتعذيب.
ولكن من المؤكد أن المحرمات القديمة التي تمنع إراقة الدماء الفلسطينية ــ وهي حدود أخلاقية هشة ولكنها بالغة الأهمية ــ كانت تشكل تاريخيا حاجزا يحمي الطبقة الحاكمة وأولئك الذين يسعون إلى تحدي سلطتها. وقد حاولت هذه الحدود منع العداوات العائلية وتكثيف التناقضات الداخلية بين القوى السياسية المختلفة.
إن تجاوز السلطة الفلسطينية لهذا الخط لا يعني أنها تخاطر بتآكل شرعيتها فحسب، بل إنها تفكك أيضا حاجزا أخلاقيا مشتركا كان في السابق يمنعها من الانزلاق إلى صراع داخلي.
وقد اختارت السلطة الفلسطينية كسر هذا المحظور في وقت بلغت فيه منطق التعاون لديها ــ الذي تدعمه وحشية “إسرائيل” ورواية الضرورة ــ ذروته.
ولكن هذا التطور ليس خاليا من المخاطر؛ فهو يخاطر بتعقيد قبضة السلطة الفلسطينية على السلطة في الضفة الغربية، وربما يعمق من الانقسامات التي تسعى إلى قمعها.
كلما طال أمد عملية قوات الأمن الفلسطينية، كلما ازدادت دموية، وكلما ازدادت التضحيات التي تتطلبها، كلما ارتفعت أجراس الخطر التي تدق للطبقة الحاكمة في الضفة الغربية.
وفي مثل هذا المشهد، سوف تتعثر لغة الرثاء أو التشهير تحت وطأة الدماء المسفوح. ومع ارتفاع عدد الضحايا، سوف تغرق صرخات الانتقام في نداءات ضبط النفس، مما يحول الحزن إلى مطلب لا هوادة فيه للمحاسبة.