تحليلات واراء

خيانة الأنظمة العربية لفلسطين.. وصمة عار أبدية

في خضم حرب الإبادة الجماعية التي تواصل دولة الاحتلال الإسرائيلي شنها على قطاع غزة منذ 11 شهرا فإن إحدى الثوابت الناتجة عنها ما تمثله خيانة الأنظمة العربية من وصمة عار أبدية.

في الثاني من أغسطس/آب، استقطبت صلاة الجنازة على إسماعيل هنية آلاف الأشخاص إلى مسجد الإمام محمد بن عبد الوهاب في الدوحة تكريماً لرئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية “حماس” الذي تم اغتياله في استهداف إسرائيلي.

ومن بينهم العشرات من المبعوثين من مختلف أنحاء العالمين العربي والإسلامي الذين سافروا إلى قطر للتعبير عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني وسط الإبادة الجماعية المستمرة التي ترتكبها إسرائيل في غزة والتي أشعلت فتيل التوتر في معظم أنحاء المنطقة.

لكن كان من اللافت غياب ممثلي حكومات الأردن والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر والمغرب عن الجنازة.

ورغم اختلافاتهم السياسية الحاسمة، فقد جمعت مناسبات مماثلة في الماضي، مثل جنازة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، الزعماء العرب في عرض رمزي للوحدة والحزن الجماعي.

ورغم كل التناقضات الصارخة، فقد وجدت الدول العربية في السابق أنه من الضروري الاهتمام بمسألة التحرير الفلسطيني في عيون شعوبها، وإن كان ذلك في أغلب الأحيان بالأقوال وليس بالأفعال.

لكن منذ قمعها العنيف للثورات العربية، لم تعد الأنظمة الاستبدادية في حاجة إلى إضفاء الشرعية على حكمها من خلال دعمها المعلن لفلسطين.

فهي تشعر أنه قد أصبح لديها الآن حرية التصرف في ملاحقة سياسات غير شعبية على الإطلاق، بما في ذلك التطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.

الدعم العلني لإسرائيل

إن الغيابات في الدوحة ليست سوى أحدث مثال على التحول في أسلوب ومضمون هذه الأنظمة، وهو التحول الذي كان قيد الإعداد على مدى أكثر من عقد من الزمان، وأصبح أكثر وضوحا منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

وعلى الرغم من كل التناقضات التي اتسمت بها، فقد وجدت الدول العربية في السابق أنه من الضروري أن تولي اهتماماً لمسألة التحرير الفلسطيني في نظر شعوبها.

والواقع أن العديد من الدول العربية عرضت على “إسرائيل” دعماً كبيراً منذ شنت هجومها على غزة. وقد أدى هذا إلى تسليط الضوء على صورة إقليمية كانت قد تشكلت منذ فترة طويلة حول كيفية تجنيد هذه الدول في النظام الأمني ​​الأميركي الإسرائيلي.

ولقد ذهب البعض إلى حد حشد قدراتهم العسكرية لاعتراض الضربات الانتقامية التي تشنها إيران والميليشيات الإقليمية، وإعادة توجيه البضائع عبر طرق تجارية بديلة رداً على الحصار الذي يفرضه الحوثيون على الشحن الإسرائيلي في البحر الأحمر.

ومن جانبها، قامت مصر بدوريات متواصلة على حدودها مع غزة بالتنسيق الوثيق مع إسرائيل، مما أدى إلى تفاقم الكارثة الإنسانية غير المسبوقة التي تتكشف في القطاع المحاصر.

في العصور السابقة، كان من غير الممكن تصور أن تتصرف الأنظمة العربية في تحالف مفتوح مع “إسرائيل”. وهذا يثير تساؤلات حول كيفية نشوء مثل هذا الواقع، وما هو التأثير الذي قد تخلفه اللحظة الحالية على هذه التحالفات في المستقبل.

استثناء فلسطين

لقد شكلت قضية فلسطين تاريخياً رافعة ملائمة للحكام المستبدين العرب لتأسيس شرعيتهم من ناحية وتوجيه السخط الشعبي من ناحية أخرى.

ولقد شكلت قضية تحرير فلسطين عنصراً أساسياً من عناصر الهوية الوطنية العربية الحديثة، ومنذ الخمسينيات فصاعداً كانت تشكل جوهر المشروع القومي العربي الذي تبناه الرئيس جمال عبد الناصر في مصر، ومنصة حزب البعث عندما صعد إلى السلطة في سوريا والعراق.

لقد رفع ملوك الخليج في كثير من الأحيان راية فلسطين من أجل ترسيخ شرعيتهم ما بعد الاستعمارية، وتعزيز مكانتهم الإقليمية، والحصول على موافقة شعوبهم.

كما أن الأنظمة التي كانت معروفة بعدم تسامحها مع التعبئة الشعبية كانت تجعل من فلسطين استثناءً.

لقد سمحوا للاحتجاجات الجماهيرية، وإنشاء المنظمات غير الحكومية وبعثات الإغاثة، والتعبير الثقافي الشعبي لدعم الفلسطينيين بالازدهار، حتى في حين لم يظهروا أي تسامح مع نشاط مماثل على الجبهة السياسية المحلية.

ولقد افترض علماء السياسة منذ فترة طويلة أن “ديمومة الاستبداد” التي تتمتع بها هذه الأنظمة ترجع جزئياً إلى قدرتها على تشتيت انتباه الجماهير وصرف انتباهها عن السخط الشعبي. وفي هذه الحالة، كانت فلسطين في كثير من الأحيان بمثابة صمام مفيد لتخفيف الضغوط.

ورغم أن دولاً مثل مصر والأردن وقعت معاهدات تطبيع مع “إسرائيل”، فإن حكامها شعروا مع ذلك بالحاجة إلى مواصلة دعواتهم الخطابية إلى تحرير فلسطين.

ولقد اتخذت الدول العربية إجراءات صارمة (وإن كانت رمزية في أغلبها) رداً على الغضب الواسع النطاق إزاء العنف الاستعماري الصهيوني، بما في ذلك قطع العلاقات الدبلوماسية بشكل دوري والحد بشدة من التبادلات الاقتصادية والثقافية مع “إسرائيل”.

تأثير الانتفاضات العربية

في أعقاب الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في عام 2010 وأدت إلى إضعاف أو انهيار عدد من الأنظمة، اجتاحت المنطقة موجة من الثورة المضادة.

وقد تجلى ذلك بشكل واضح في الانقلاب العسكري في عام 2013 الذي أطاح بالانتقال الديمقراطي الهش في مصر ونصب عبد الفتاح السيسي حاكما استبداديا لأكبر دولة عربية.

وقد أثبتت الانتفاضات العربية، من بين أمور أخرى، أن فلسطين لم تكن في العقود السابقة مجرد مصدر إلهاء للمجتمعات العربية. بل كانت بدلاً من ذلك موقعاً للتعليم السياسي الجماهيري في حد ذاته، حيث تم تشكيل السرديات والهويات السياسية البديلة في تحدٍ لتلك التي طرحها الحكام.

لقد كشف النضال من أجل فلسطين عن الضعف البنيوي والإفلاس الأخلاقي للأنظمة العربية التي سمحت بنجاح وتوسع المشروع الصهيوني في أوساطها بينما كانت تقترب منه باستمرار من حيث إعادة تنظيمها الاستراتيجي.

وبالتالي، لا يمكن فصل تأثير الحرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية في فلسطين على المنطقة الأوسع عن التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الأوسع نطاقا في العقد الماضي.

فقد اتسم هذا العصر إلى حد كبير بالمحاولات العدوانية لإعادة ترسيخ النظام الإقليمي الاستبدادي، والتي وجهتها في المقام الأول حكومتا المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.

وبعد أن وجدت هذه الأنظمة نفسها ليست بحاجة إلى تقديم الخدمة الكلامية لقضية فلسطين، أصبحت أقرب إلى رؤية أميركية إسرائيلية للأمن الإقليمي من شأنها أن تجند عدداً من الدول في الصراع الإقليمي.

وكانت إحدى النتائج الرئيسية لهذه العملية هي ما يسمى باتفاقيات إبراهيم، التي أدت إلى تطبيع العلاقات بين “إسرائيل” والعديد من الدول العربية.

ومع اصطفاف الأنظمة واحدا تلو الآخر لاحتضان مستعمرة الاستيطان، أصبح من الواضح للجميع أن الموقف العربي التقليدي القائل بأن التطبيع لن يحدث إلا بعد تحقيق تقرير المصير الفلسطيني لم يكن أكثر من كلمات فارغة من عصر مضى.

وقد أجبرت أحداث السابع من أكتوبر والحرب الإبادة الجماعية التي أعقبتها فلسطين على العودة إلى قمة الأجندة الإقليمية، الأمر الذي أصاب الولايات المتحدة و”إسرائيل” وشركائهما العرب بالإحباط الشديد.

خيانة علنية

إن الدول العربية التي لعبت دورها على نحو جيد من خلال توفير الدعم العسكري والاقتصادي الحاسم لإسرائيل تواجه الآن تحدياً أعظم كثيراً في نضالها من أجل الشرعية الداخلية مقارنة بما كانت عليه قبل هذه الحرب.

وإن الفجوة بين الحكام العرب وشعوبهم لم تكن أوسع من أي وقت مضى، وهو وضع غير قابل للاستمرار على المدى الطويل.

لقد أعادت الأحداث الأخيرة فتح أسئلة ظلت مدفونة لفترة طويلة بشأن آفاق التعبئة الشعبية، والتي أجاب عليها المستبدون في المنطقة بمزيد من القمع.

في أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول، انفصلت مسيرة احتجاجية نادرة ومُدارة بعناية في القاهرة لدعم الفلسطينيين عن المسار الذي وافقت عليه الحكومة وحاولت الدخول إلى ميدان التحرير، حيث فرقتها قوات الأمن بسرعة.

ولم يسمح نظام السيسي بتنظيم أي احتجاجات منذ ذلك الحين.

وفي العديد من دول الخليج، تم حظر رفع الأعلام الفلسطينية وارتداء الكوفية بشكل صارم. وحتى الصلوات التي أقيمت لدعم الفلسطينيين تم قمعها من قبل الشرطة السعودية في مكة.

ورغم كل المناقشات حول انقلاب النظام الليبرالي بسبب الدعم الغربي الثابت للإبادة الجماعية التي ترتكبها “إسرائيل”، فمن الجدير بالذكر أن هذه اللحظة كشفت عن الأنظمة العربية أيضاً.

إذا اهتز النظام الليبرالي في جوهره على مستوى العالم، فسوف يخلف ذلك ارتدادات هائلة في المنطقة، وخاصة مع تدهور الظروف الاجتماعية والاقتصادية، مما يؤدي إلى تفاقم الشعور بالإحباط والخيانة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى