“إسرائيل” تواجه خطر ضياعَ عقد كامل على الاقتصاد
تواجه دولة الاحتلال الإسرائيلي خطر ضياعَ عقد كامل على الاقتصاد على غرار “العقد الضائع” الشهير بعد حرب أكتوبر 1973؛ تحت ضغط المصاعب الأمنية وارتفاع الإنفاق على الدفاع وتراجع الإنفاق الاستهلاكي والاستثمار الأجنبي المباشر وغير ذلك.
وتعاني دولة الاحتلال من تأزّم مالي واختلال كلي بعد أكثر من عام من بدء حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة والانخراط في توتر إقليمي على عدة جبهات بفعل ضربات محور المقاومة المساندة لغزة.
وبحسب تقرير لديفيد بروديت في مركز القدس للأمن والشؤون الخارجية الإسرائيلي، أواخر سبتمبر الماضي، بلغت تقديرات النفقات المباشرة للحرب، سواء عسكرية أو مدنية، حوالي 180 مليار شيكل، أو 48 مليار دولار تقريباً، منذ بداية الحرب وحتى نهاية العام الجاري، وذلك بخلاف المعونات الأميركية الرسمية المُعلنة البالغة 14 مليار دولار بحسب أدنى التقديرات.
ويُقدّر فاقد الناتج المحلي الإجمالي بنحو 17 مليار دولار حتى نهاية العام الحالي، وتُقدر تكاليف إعادة تأهيل ما دُمّر من مبانٍ ومعدات وبُنى تحتية بحوالي 20 مليار دولار، فضلاً عن 15 مليار أخرى لتعويض خسائر المعدات العسكرية.
وبلغ بمجموعه بالتكاليف المختلفة الأخرى نحو 95 مليار دولار تكلفةً إجمالية للحرب خلال حوالي سنة، أو ما يُعادل 18% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي لإسرائيل، وبما يتجاوز التقديرات الأولى بعد الطوفان مباشرةً بمقدار 58 مليار دولار، بوصفها تكلفة إجمالية للحرب، بزيادة بنسبة 64% تقريباً.
ومن المتوقع وصول عجز الموازنة إلى 8.1% من الناتج المحلي الإجمالي بما يوازي تقريباً ثلاثة أمثال توقعاته قبل الحرب، مع توقعات بزيادته إلى مستويات أبعد مع توسّع الصراع.
ورغم كل الدعم المالي والعيني من الولايات المتحدة، اضطر وزير المالية الإسرائيلي في 16 سبتمبر الماضي إلى طلب موافقة البرلمان على زيادة جديدة للعجز في الموازنة للمرة الثانية في العام نفسه.
وهو ما نتج عنه ارتفاع الدين الحكومي من 60% إلى 70% من الناتج المحلي الإجمالي خلال عام واحد، مع توقعات بارتفاعه إلى 80% منه في عام 2025، وبطبيعة الحال ارتفعت فوائد الديون الحكومية مع ارتفاع عجز الموازنة والدين العام.
ويؤثر ذلك سلباً على التصنيف الائتماني لإسرائيل (ومعها ثقة المستثمرين وعلاوة المخاطرة ومعدلات التضخّم وقيمة العملة)، رغم مماطلة الوكالات المعنية في خفض التصنيف مجاملةً لإسرائيل.
ومن المُتوقّع أن يضعف كل هذا التأزّم المالي بأبعاده المختلفة، من ارتفاع لنفقات الديون والفوائد وأسعار الفائدة، مُتضافراً مع انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر مع التخفيض الائتماني، من معدلات النمو الاقتصادي الكلي، التي انخفضت بالفعل إلى نحو 2% في عام 2023، ويُتوقع ألا تتجاوز ما بين 0.5 و1% في عام 2024 الجاري.
وهو ما يعني ضمنياً انخفاض متوسط الناتج المحلي الإجمالي للفرد، ما يتجاوز بآثاره آثار فترة كورونا؛ بفعل تشعّب آثار الحرب عبر كل القطاعات، وإضرارها بالقطاعات الحيوية، مثل الزراعة والصناعة التحويلية والتكنولوجيا الفائقة، بشكل خاص؛ بفعل التعبئة المستمرة لقوات الاحتياطي ومنع قوة العمل الفلسطينية واضطرابات سلاسل الإمداد والتوريد وغيره.
كما أدت التعبئة العسكرية الواسعة إلى تناقض شاذ بين معدَّلَي النمو والبطالة، حيث انخفضا معاً خلافاً للمنطق الاقتصادي؛ فأصبحت البطالة في أدنى مستوياتها رغم انخفاض النمو الكلي؛ نتيجة لعدم حساب العمالة المحوّلة إلى القوة العسكرية ضمن البطالة، بينما تمثّل في الواقع هدراً لا يسهم في النشاط الاقتصادي بأيّ شيء؛ ما يمثّل تكلفةَ مُزدوجة على الاقتصاد، من جهة فاقد الإنتاج والنمو، ومن جهة الأجور غير المُنتجة.
وعلى صعيد الاستثمار الأجنبي المباشر وثقة المستثمرين عموماً، انخفض الأول بنسبة 40% عن العام الماضي، كما ارتفعت معدلات هروب رؤوس الأموال من البلد، والتي وصلت تدفقاتها ما بين شهري مايو ويوليو الماضي إلى ملياري دولار، ما يُعادل ضعف نظيرتها للفترة نفسها قبل عام.
وسجل أكبر ثلاثة بنوك إسرائيلية ارتفاعاً كبيراً في طلبات العملاء نقل مدخراتهم إلى بلدان أخرى أو إعادة تقييمها بالدولار بدلاً من الشيكل الإسرائيلي.
كما تلقّى قطاع الشركات الصغيرة ضربة قوية بالحرب، فلأول مرة منذ سنوات سيتجاوز عدد الشركات التي ستغلق القطاع عام 2024 عدد الجديد الذي سيفتح لأول مرة، وتمثل هذه الفئة 77% من إجمالي الشركات التي أغلقت منذ بداية الحرب، وهو الإجمالي الذي يُتوقّع بلوغه 60 ألف شركة في نهاية العام الجاري.
أما في قطاع التكنولوجيا الفائفة، المسؤول وحده عن نصف الصادرات الإسرائيلية، فقد انخفضت الاستثمارات بالقطاع في الربع الثالث من العام الجاري بنسبة 70% مُقارنةً بالربع الثاني منه، وأكثر من 50% مقارنة بالربع الأول منه، لتصل إلى 938 مليون دولار فقط ضمن 61 صفقة، ما يمثّل أقل قدر من الاستثمارات حقّقه القطاع منذ الربع الثالث لعام 2017، وأقل عدد من الصفقات طوال العقد الماضي.
كما تتنامى على المستوى الأوسع، في البورصات والأسواق الأميركية والأوروبية، اتجاهات جنينية بين الشركات وكبار المستثمرين لتقليص تعاملاتهم مع الشركات الإسرائيلية، وفي الأسهم والأسواق الإسرائيلية، ضمن حركة أوسع نطاقاً وُصفت بالمقاطعة الصامتة؛ تحت ضغط التهديدات الاستراتيجية والإشكالات الأخلاقية المُتصاعدة بشأن التعامل فيها، رغم كل المحاولات الرسمية وغير الرسمية لمقاومة هذا الاتجاه.
وأهم ما في هذه الآثار أنها كلها، من جهة، لا تزال مجرد بدايات لاتجاهات يرجح اتساعها حال استمرت الحرب واتسع نطاقها، وأنها من جهة أخرى، لم تظهر كامل آثارها بعد، ناهيك عما يمكن أن ينتج عن تكاملها وتشابكها الطبيعي، خصوصاً عندما تبدأ الدورة العكسية للمُضاعف الكينزي بتفعيل الآثار السلبية التراكمية لهذه التسرّبات من تدفقات الدخل والاستثمار بالاقتصاد الإسرائيلي.
ويبقي أن الخسارة الأكبر التي يتعرّض لها الإسرائيليون تكمن في دخولهم حرب استنزاف وجودية، لا يعلم على وجه التحديد أي أفق لنهايتها. وعلى الرغم من أن الجيش الإسرائيلي تخطّى استراتيجيته العسكرية التي اعتمدها طوال الوقت منذ قيام الدولة، والقائمة على الحرب الخاطفة السريعة، سوف تكون لهذا التخطي، حتماً، مآلات سلبية خطيرة في المستقبل على الجيش والكيان معاً.