تحليلات واراء

السلطة من أجل السلطة.. فتح تواجه أشد مراحلها قتامة

احتفت حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) قبل أيام بالذكرى السنوية 60 لانطلاقتها في وقت يرى مراقبون أن الحركة تواجه أشد مراحلها قتامة في ظل طغيان مشروع الحافظ على السلطة كهدف بحد ذاته.

وكان غريبا على أوساط فتح إحياء ذكرى انطلاقة حركتهم التي فجرت الثورة الفلسطينية الحديثة مع تواصل حملة أمنية تشنها الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية في جنين لملاحقة فصائل المقاومة.

الأغرب أن فتح التي قدمت نفسها لعقود مؤسسة السلطة الفلسطينية ومشروعها نحو الدولة تظهر وقد بدا كأنها تعرضت للخطف من مجموعة قيادية باتت تهيمن على المشهد الوطني وتعتمد على التنسيق الأمني سبيلا للحكم والحفاظ على السلطة.

وضع تنظيمي مختلف

يبرز الباحث وأستاذ العلوم السياسية أحمد جميل عزم أن “الفكرة الفتحاوية” لم تكن يوماً أقوى ممّا هي عليه حالياً، ولكن في المقابل، ربّما كان وضع التنظيم الحركي الفتحاوي، والفلسطيني عموماً، في الغالبية العظمى من العقود الستّة الفائتة أفضل ممّا هو عليه، أو على الأقلّ كان له دور مختلف.

ويشير عزم، إلى أنه عندما انطلقت مجموعة فدائية باسم “قوات العاصفة”، في آخر ساعات 31 ديسمبر/ كانون أول 1964 لتقوم بعملية عسكرية متواضعة حجماً، عملاقة فكرةً، تُسمَّى عملية نفق عيلبون، وهي نسف منشأة مياه في عمق فلسطين المحتلة.

وقد تم تنفيذ العملية مع دخول اليوم الأول من العام التالي، ليصبح هو تاريخ البداية الرسميّة في حركة فتح، أو ما يعرف بـ”الانطلاقة” (1/1/1965)، كان ذلك تتويجاً لنحو ثمانية أعوام من التفكير والعمل التنظيمي شبه السرّي، ونهايةً لجدل داخلي عميق في قيادة الحركة.

وبحسب عزم يمكن تقسيم تاريخ حركة فتح وفقاً لعدّة تصنيفات، ولكن من حيث وسائل العمل والشكل التنظيمي والمحتوى الفكري والوظيفة، يمكن تقسيمه بين أربع مراحل أساسية:

ما قبل الانطلاقة (1958 – 1965)، والصعود والكفاح المسلّح (1965 – 1974)، والسياسة المستندة إلى المقاومة والعودة إلى الداخل (1974 – 1994)، والمزاوجة بين السلطة وحركة التحرّر (1994 – 2024). والآن (ربّما خامسة) مرحلة “السلطة والسلطة فقط”، وهي مرحلة تحمل بذور فنائها السريع، إلا إذا تم اللجوء إلى خطّة تثوير جديدة، تستوعب دورس الستّين سنة الفائتة.

عقيدة مقدّسة

في مرحلة التأسيس، (1958 – 1965)، قبل الانطلاقة، كان التركيز في بناء الفكرة الحركيّة، وكانت هناك عناية خاصّة بالفكرة والتفكير، ففي هذه المرحلة صدرت مجلة فلسطيننا من بيروت، وأصبحت آلية اتصال وتجنيد لفلسطينيين كثيرين في العالم، اطلعوا على فكرة المجموعة المُؤسِّسة لحركة فتح.

في هذه المرحلة صدرت وثائق مثل “هيكل البناء الثوري”، وصار هناك مصطلح يتداوله الفتحاويون هو “أدبيات”، في الإشارة إلى مجموعة الأنظمة والمواثيق الحركية.

بدأت هذه المرحلة في شكل لقاءات طلابية من شباب هم بالدرجة الأولى من قطاع غزّة، في أثناء دراستهم في جامعات مصر، عام 1957، ثمّ شباب هاجر إلى دول الخليج العربية وانطلق من هناك، وكانت الأولوية لنشر الفكرة، في حينه، وتحديداً فكرة التنظيم الحركي غير الحزبي، أي لم يتبن أيديولوجيا عقائدية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية محدّدة.

وتقوم الفكرة على تأسيس تنظيم فلسطيني خاصّ وجامع، وصاحب قرار مستقل، بعيداً من التنظيمات العربية والإسلامية الأخرى ذات البرامج المختلفة، المنغمسة في سياسات الدول الأخرى وأنظمتها، والتي لا تعتبر التحرير وعودة اللاجئين أولوية عاجلة.

وهذا التنظيم الخاص، كما تدلّ القراءة في الأفكار الشخصية للمؤسّسين، لم يكن بعيداً أبداً من الفكر الكياني، وكان هناك تعبير صريح عن توق لديهم لتأسيس دولة في الضفة الغربية وقطاع غزّة، لتكون دولةً للفلسطينيين (جمهورية تحديداً)، ومنطلقاً لتحرير باقي فلسطين.

أدّت الانطلاقة المسلحة في 1965 إلى أن تواجه الحركة تساؤلات عن انتماءاتها وفكرها، واتهمها بعضهم بالتبعية لأنظمة عربية، ولعلّ ما فعله ياسر عرفات، بعد هزيمة حزيران (1967)، يلخّص الإجابة الفتحاوية، ودشّن المرحلة الثانية للحركة، وهي مرحلة الكفاح المسلّح استراتيجيةً وحيدةً تجيب عن غالبية الأسئلة.

فبعد نكسة حزيران، ترك عرفات، الذي بات يعرف من بين أسماء أخرى بـ”الختيار”، الجدل محتدماً داخل قيادة الحركة، بشأن كيفية مواجهة المرحلة، ونزل بقرار فردي إلى حدّ كبير، في الأرض المحتلة، واستقر في الجبال ليوجد تنظيماً مسلّحاً هناك، مع مجموعة من الشباب تركوا وظائفهم ودراستهم من دول مختلفة.

ثم انطلق الكفاح المسلّح من الأردن، قبل الانتقال إلى لبنان، وبدأت معركة الاغتيالات الإسرائيلية للكوادر الفلسطينية في العالم، وعمليات خارجية للمقاومة، وصارت المقاومة المسلّحة أشبه بالعقيدة المقدّسة، وبات الحديث عن الدبلوماسية والتفاوض أشبه بالكبائر المحرّمة.

وقد أوصلت هذه المرحلة للاعتراف دولياً وعربياً بمنظمة التحرير الفلسطينية، التي باتت بقيادة “فتح” ممثّلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني في 1974، حين بدأت مرحلة جديدة.

في المرحلة الثالثة، تخلت “فتح” عن شعار “الكفاح المسلّح هو الاستراتيجية الوحيدة”، وجرى رفع شعارات المقاومة بالوسائل كافّة، وشعارات مثل “البندقية بيد وغصن الزيتون بيد”، و”البندقية تزرع والسياسة تحصد”، ويمكن القول إنّ هذه المرحلة استمرّت حتى اتفاقيات أوسلو 1994.

وفي الواقع، حتى قبل عام 1974، بدأت تشغل بال قيادة “فتح” عملية البناء الاجتماعي والحاضنة الاجتماعية للثورة في داخل الضفة الغربية وقطاع غزّة والشتات، وهذا في جزء منه بديهي، لأنّ الحركة أصبحت تقود منظّمة التحرير، أي تقود الكيان الفلسطيني الجامع.

من هنا قادت الحركة في بعض الحالات (وساعدت في حالات أخرى) تأسيس الجامعات الفلسطينية، وتحويل مدارس إلى جامعاتٍ، وعملت لتأسيس مدارس وفرق فنّية وصحف ومجّلات ورعاية جمعيات أهلية. لكنّ كادر “فتح” التنظيمي ظلّ في السبعينيّات (خصوصاً داخل فلسطين) يركز في العمل المسلّح.

وإحدى المقولات المتداولة بكثرة إنّ الحزب الشيوعي الفلسطيني، مثلاً، كان يتفوّق على “فتح” بالعمل الشعبي المنظّم في الضفة الغربية، وكان على سبيل المثال يسيطر على الانتخابات الطلابيّة.

ورغم مؤسّسات منظّمة التحرير الإعلامية والبحثية، وازدهار الدبلوماسية الفلسطينية في السبعينيّات، إلا أنّ “فتح”، وبموازاة الصعود الكياني (الاعتراف العربي والدولي) دخلت في لبنان عمليّة عسكرة نظامية، وتحوّلت قواتها إلى ما يشبه الجيش النظامي في تشكيلاته وتسليحه.

“المقاومة تزرع والسياسة تحصد”

مع الحرب الأهلية في لبنان، أصبح الشغل الشاغل لقيادات وكوادر كثيرة نقل الثورة إلى الداخل، بداية من مجموعات ذهبت إلى جنوب لبنان لتقاتل من هناك، بعيداً عن الحرب في بيروت، والأهم بدأ اتجاه يسعى إلى زيادة الدوريات العسكرية والمجموعات داخل فلسطين، وتعدّدت العمليات النوعية، سواء بالتسلّل عبر البحر (مثل عملية كمال عدوان بقيادة دلال المغربي)، أو عملية الدبويا في الخليل.

لكن مع العام 1981، كانت إرهاصات قرار العودة للداخل قد تبلورت. في هذه المرحلة، نشأت حركة الشبيبة الفتحاوية في داخل فلسطين، ولجان المرأة، ودخلت فتح النقابات، والهيئات المدنية، وتعمق تأسيس الصحف والمجلات، والمؤسّسات الشعبية. ومع عام 1982 والخروج العسكري من بيروت، تكرّسَت فكرة العودة إلى الداخل خياراً شبه إجباري، على قاعدة “المقاومة تزرع والسياسة تحصد”.

في الشتات، في هذه المرحلة، أولت القيادة الفلسطينية والكوادر أهميةً خاصّة لمخاطبة العالم والعرب دبلوماسياً وإعلامياً، تحت بند ما سمّاه عرفات “هجوم السلام الفلسطيني”.

وفي هذه المرحلة، ذهب الجهد الإعلامي الحقيقي لخطاب موجّه للعرب والفلسطينيين على السواء، فمثلاً تابع ياسر عرفات صدور مجلة اليوم السابع في باريس، وتابع خليل الوزير وبعده عرفات صدور “القدس العربي” من لندن.

وقد أصبحت الكتب التي يصدرها خالد الحسن، من خلال دور نشر أشرفت عليها حركة فتح، تُعدّ تنظيراً أساساً للحركة في ذلك الوقت، وكان التركيز على فكرة الدولة الفلسطينية، لتصبح بمثابة العقيدة البديلة بمركزيتها عن فكرة الكفاح المسلح.

وبحسب عزم فقد تعمقت في هذه المرحلة المقاومة الشعبية السلمية، أو شبه السلمية، وأهم تجلياتها الانتفاضة عام 1987، لذلك هذه المرحلة هي في حقيقتها مرحلة السياسة المستندة إلى القاعدة الشعبية، حيث ثمة مجتمع مدني مناضل قوي في الأرض المحتلة، عبر الجامعات، التي أصبحت تقود الحركة السياسية في فلسطين، وعبر مجموعة كبيرة من مراكز الأبحاث والجمعيات والمجلات والصحف، داخل فلسطين.

فمثلاً أصبحت جمعية الدراسات العربية في القدس، على سبيل المثال، والتي تأسّست في 1980، بمثابة العنوان القيادي للحركة الوطنية الفلسطينية، بقيادة “فتح” داخل فلسطين.

مرحلة السلطة الفلسطينية

جاءت المرحلة الرابعة مع 1994، وهي مرحلة السلطة الفلسطينية، ويمكن فيها تلمّس محاولة أو معضلة المزاوجة بين السلطة والتحرّر. ففي عهد ياسر عرفات في زمن السلطة (1994- 2004)، كان هناك محاولة لتجسيد شعار “البندقية زرعت وعلى السياسة أن تحصد”، وأنّ وقت الحصاد قد حان، وإذا لم يتم الحصاد فالعودة إلى المقاومة.

هذا حدث في مناسبات أهمها انتفاضة النفق 1996، التي اندلعت على شكل موجة احتجاج شعبية مدعومة من قوات الأمن الفلسطيني، التي وصلت إلى حالات المواجهة العسكرية مع الاحتلال، ثمّ انتفاضة عام 2000، التي شهدت مواجهة أسهمت فيها وقادتها حركة فتح، عبر كوادرها أو أعضاء الأجهزة الأمنية، الذين شكّلوا جناحاً مسلّحاً جديداً هو كتائب شهداء الأقصى.

ويعتقد أن هذه المرحلة انتقلت إلى طور جديد، ودخلت عملية مراجعة، مع تسلّم محمود عباس القيادة الفلسطينية بعد عرفات، فصار التركيز على مشروع بناء الدولة، وتبنّي فكرة المقاومة الشعبية السلمية، من دون أن يختفي اسم كتائب شهداء الأقصى.

وعدم اختفاء اسم الكتائب يعود في جزء منه إلى تشبث في جمهور الحركة وكوادرها بالوجه المقاوم، ولأنّ وجود جناح مسلّح يبدو ورقةً احتياطية استراتيجية، أو ورقة في مواجهة الأجنحة المسلّحة الأخرى، خصوصاً مع الانقسام الفلسطيني الداخلي.

لكن المقاومة الشعبية السلمية، انحصرت تدريجياً بالدفاع الموقعي، دون حركة جماهيرية واسعة. بمعنى أنّه بعد الزخم الكبير لهذه المقاومة في مواجهة مشروع جدار الفصل العنصري، في بلعين، ونعلين، وبُدرس، وغيرها، بدأت تتحول هذه المقاومة إلى هيئة رسمية ووزارة حكومية، وبدأ نشاطها ينحصر في الدفاع في مواقع بعينها، ولم تتحول إلى حالة شعبية تعم المدن والمخيمات.

إذاً، كانت هبّة 2015/ 2016، التي أخذت شكل عدد من عمليات الطعن والمواجهات التي بدأها شبّان من دون إطار تنظيمي بمثابة مؤشرات لإرهاصات اتساع العمل الشعبي خارج إطار الفصائل، فإنّه ومع عام 2021 تقريباً بدا أنّ هناك تحركاً أو ديناميات جديدة، لا تنتظر مشروع السلطة المتعثر.

وهو تعثر من أهم أسبابه الرفض الإسرائيلي لأيّ تطوّر كياني فلسطيني، من حيث عدم وجود عملية سياسية جارية، أو آلية حقيقية للمصالحة الفلسطينية وتوحيد للحركة الوطنية الفلسطينية، وهو ما أعطى مؤشراً لغياب حركة فتح عن قيادة الشارع الفلسطيني.

وقد صارت المقاومة الشعبية التي تقودها “فتح” تنحصر في مناسبات وأماكن معينة، أبرزها الخان الأحمر في شرق القدس، وقرية بيتا في شمال الضفة الغربية، جنوب نابلس.

وهنا لا بد من التنويه أنّ هذه المقاومة الشعبية أصبحت بشكل أو آخر جزء من مؤسسة رسمية أو ترعاها الى حد كبير مؤسسة حكومية تتبع السلطة الفلسطينية، وهو سلاح ذو حدين، فهو من جهة نوع من الخطة للمواجهة وتوفير إمكانيات مادية وتنظيمية. وهو من جهة ثانية إيغال في الابتعاد عن الشكل الشعبي والمبادرات القاعدية للمقاومة.

شهد عام 2021 مجموعة نقاط لم تلتقطها حركة فتح، فرغم موقف الرئيس الفلسطيني، القوي في مواجهة خطط “الصفقة النهائية” التي قدّمها دونالد ترامب، وتعرف باسم “صفقة القرن”، ورغم مواجهة الاحتلال واقتطاعات أموال السلطة بسبب ملفات مثل “الأسرى”، فإنّ الحركة، على الصعيد الداخلي، لم تعقد مؤتمرها العام الذي كان موعده في هذا العام.

وقد جرى إعلان انتخابات مجلس تشريعي وانتخابات رئاسية، ثم التراجع عن عقدها، من دون وضع خطة بديلة للتمثيل الشعبي، أو التوافق الوطني. وفي هذا العام جرت مواجهة سيف القدس في غزّة، التي جرت من دون تمكن فتح من لعب دور سياسي أو ميداني في صناعة الحدث، وتلاها تهديد من قائد حركة حماس في غزّة، يحيى السنوار، بأنّ يحرق الأخضر واليابس إذا لم يتغير وضع الحصار في قطاع غزة.

خطّة مواجهة

جاء تأسيس كتائب ومجموعات مسلّحة في شمال الضفة الغربية (جنين، نابلس، طولكرم)، وفي أريحا وسط الضفة، بين عامي 2021 – 2023، بمثابة مؤشّر آخر على ديناميات لا تنتظر مشروع السلطة أو “فتح” لتبلور خطة مواجهة. افتقدت الحركة في هذه المرحلة أدبيات أو شعارات أو خطط.

وجاءت عملية حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، في 7 أكتوبر (2023)، في محيط قطاع غزّة، المعروفة باسم طوفان الأقصى، وما تلاها من حرب إبادة، بمثابة اختبار لقدرة حركة فتح على تطوير خطّة وخطاب يلائمان هذا الزلزال السياسي.

انحسرت المقاومة الشعبية، رغم اتساع الهجمة الاستيطانية، وتحوّلت “فتح”، وتحديداً قيادتها الرسمية، ومن قرّرت أو سمحت أن ينطقوا باسمها، إلى أشبه بالمعارضة السياسية، فقد أصبحت في موقع من يرفض ويعارض ما قامت به حركة حماس في غزّة، مع موقف انتظاري، يحاول أن يراهن على “اليوم التالي” للحرب، من دون تقديم رؤية شاملة.

وتطوّر الوضع إلى رفض أي مظهر مسلّح غير رسمي في الضفة الغربية، خصوصاً إذا أخذ شكل مجموعات علنية كما في كتائب جنين وطولكرم وغيرهما، وهو ما تجسّده طريقة الهجوم والعملية الأمنية الجارية في مخيم جنين.

وهو ما يمكن قراءته بأنّه إذا كانت المقاومة الشعبية غابت، رغم تسارع الاستيطان والاقتراب من خطط ضمّ الضفة الغربية رسمياً لإسرائيل، فإنّ قراراً اتخذ هو أنّ “تجنب المواجهة” المسلّحة مع إسرائيل الأولوية، وأنّ وحدانية السلاح وحصره بيد قوى الأمن الفلسطيني، هي أولوية، مع التركيز على العمل الدبلوماسي والقانوني في مواجهة الاحتلال.

بمعنى آخر، إن المرحلة الراهنة، كما تبنّتها “فتح”، أو تم تبنّيها باسمها، تبدو حتى الآن كما لو كانت مرحلة “السلطة وفقط السلطة”، أداة عمل. والخطاب المحيط بهذه الخطة، يعتبر تجنب المواجهة، لأنها ستأتي بالأسوأ على غرار ما حدث في غزّة، هو الأولوية، وهو الإنجاز الممكن تقديمه وتسويقه للشعب بجانب العمل الدبلوماسي.

أحد النواقص الكبيرة في هذا الخطاب والذي يجعل بذور نقضه موجودة داخله، أنّه لا يقدم بديلاً واضحاً لمواجهة الاستيطان والهجوم الاسرائيلي اليومي، وثانياً أنه يترك الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج في موقع المتفرّج على الهجوم الإسرائيلي.

فنحو 450 يوم من حرب إبادة لم تستدع حتى عقد المجلس الوطني لمنظمة التحرير، المتقادم بدوره، وأبقى القرار والخطاب، كأنّه اللاقرار واللاخطاب، مع تحشيد التنظيم الفتحاوي، الذي يكاد ينحصر في الضفة الغربية، وليس في الشتات أو غزّة، ليصبح بمثابة الحزب الحاكم في جزء من فلسطين، مهمته الأساسية دعم السلطة والقرار الأمني. وهو منطق يصلح للدول المستقلّة. أمّا تحت الاحتلال فالمتوقع من التنظيم الشعبي أكثر من هذا بكثير، بدءاً من الشعارات والخطاب حتى التنفيذ.

ينذر هذا بأنّ المرحلة الخامسة من عمر حركة فتح، يمكن تسميتها مرحلة السلطة، أو السلطة فقط، وهي كما أشير سابقاً تبدو مرحلةً تحمل بذور فناء سريع للحركة وللمشروع الوطني، وهي تتجاوز مرحلة أوسلو حيث المزاوجة (ولو نظريّاً) بين منطقي السلطة وحركة التحرير.

وبعيداً عن “خطاب السلطة” الراهن، “فتح” حركة تحرّر يمكنها أن تدخل مرحلةَ تثوير ومقاومة من نوع آخر، يستوعب دروس وعِبَر العقود الستّة أو السبعة الفائتة من عمرها، ويمكنها تقديم خطاب مختلف.

فإذا كانت المقاومة المسلحة ليست قدراً نهائياً، أو ليس الوسيلة الوحيدة، أو حتى ليست المناسبة حالياً (بغض النظر عن التشبث بالحقّ بمشروعيتها)، فإنّ العودة لبناء المؤسسات الوطنية، بدءاً من منظّمة التحرير الفلسطينية، إلى إعادة بناء مجتمع مدني مناضل، والفصل المدروس بين الحركة والسلطة، وإعادة الوجه الشعبي للجامعات والمنظمات الأهلية، وتطويرها، وإعادة التفكير في حركة مقاومة شعبية حقيقية، واقتصاد سياسي جديد للصمود والإنفكاك عن الاحتلال… كلّها أمور ضرورية، ويمكن بلورتها في أدبيات وبرامج جديدة.

عدا هذا تكون “فتح” قد تخلّت عن “الحركة” لصالح “السلطة”، من دون أن تجيب على سؤال كيف تقوم السلطة بوظيفتها الأساسية، وهي حماية الشعب من العدوان الخارجي المباشر؛ أي الإسرائيلي، وكيف يتم إزالة هذا الاحتلال.

فالتناقض الأساسي هو “فلتان” و”أجندات” الاستيطان والاحتلال غير المسبوقة، وفتح وجدت أصلاً، ومنظمة التحرير الفلسطينية، قامت، على أساس القدرة على تقديم خطاب وطني، يقدم بديلاً يصلح لاستيعاب الخلافات والتناقضات الثانوية دون اقتتال، وبحيث تقود المواجهة مع الاحتلال.

ويختم عزم بأن فتح كانت في بداياتها تعبّر عن حركة وطنية فلسطينية مستقلّة، وحتى في داخلها واجهت مشكلة تيّارات يسارية لا تريد برنامجاً وطنياً خالصاً، بقدر ما تريد حركة سياسية عربية عامّة، لكن تجسيدها في الأرض ليس كذلك أبداً، حتى إنها تبدو فكرةً من الماضي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى