
الكاتبة: د. عفاف نضال النجار
في بلادنا، لم تعد الثورة عند البعض تعني الوقوف على السواتر، ولا الدفاع عن الأطفال تحت القصف، بل باتت تعني شيئاً آخر تماماً: منشور فايسبوكي من الخارج، أو شرط لحجز طيران على الدرجة الأولى. أما دماء الشهداء، فهي ملحق بصري ضمن عرض الـ”باوربوينت”.
خذوا مثلاً الدكتور أحمد حلس. غادر غزة في أبريل 2024، ومنذ ذلك الحين وهو يُمارس نضاله من الخارج بمنتهى الجدية… والتمويه. يكتب منشوراته كأنه بين الركام، يتحدث للإعلام بصوت متهدج كأن الطائرات تحوم فوق رأسه، بينما هو في الحقيقة يحتسي القهوة في شرفة شقته يتأمل المشهد من بعيد، وبينما يستمتع بالهواء البارد المنبعث من المكيف، يكتب: “الوضع مأساوي يا جماعة”.
تستضيفه فضائيات السلطة، يقدمه المذيع: معنا الدكتور أحمد حلس من غزة.. لا يقاطعه الأخير مصححا أنه في القاهرة، بل يتغاضى عمدا ليواصل الاسترزاق على ظهر غزة.
نعم، مأساوي جدًا… أن تهاجم المقاومة من الخارج، متطوعا في جيش أفيخاي، مأساوي أن تُوهم الناس أنك ما زلت داخل القطاع. هل هي الشجاعة؟ لا. إنها خدعة رخيصة بحساب بنكي مفتوح.
يتقمص حلس دور المناضل، بينما يجلس في مكان آمن، بلا طائرات استطلاع، بلا شظايا، وبلا أي إحساس بالخجل. ينقل لنا “معاناته”، ويوزع الاتهامات شمالاً ويميناً، وكأنه غادر غزة ليؤدي دور البطولة في مسرحية من فصل واحد: “أنا الأصدق، ولو كنت أكذب”.
يرشق حلس أبشع الأوصاف بحق مقاومة غزة، وأقذر الألفاظ التي لا تليق بربطة عنقه، وتتناقض مع عشرات محاضرات التنمية البشرية التي كان يقدمها في غزة، حين كان يخاطب الشباب بضرورة التمسك بأرضهم وعدم الهجرة منها مهما كانت الظروف، لكن القناع الذي كان يتستر خلفه سقط مبكرا خلال هذه الحرب، ومارس التملق لأعداء الوطن، ليهاجم الضحية ويبرئ الجلاد.
روابط ذات صلة: فضيحة أحمد حلس: عنصر المخابرات الخفي يمارس التضليل ويسرق المساعدات
ثم يأتي معتز عزايزة… ذلك الذي غطّى 100 يوم من الحرب، ثم قرر أن يكمل النضال على متن الدرجة السياحية العليا، أو درجة رجال الأعمال إن وُجد دعم إضافي.
معتز، نجم التصوير الحربي سابقاً، تحوّل إلى ناقد سياسي متفرغ حالياً. لم يجد ما يشغله سوى مهاجمة الدكتور مصطفى البرغوثي، أحد آخر الرموز الوطنية الصامدة، متّهماً إياه بعلاقات مع الاحتلال، لأنه… يتحرك بحرية! منطق عبقري.
تخوين مجاني، مدفوع بنزعة “أنا الأشهر”، ومحاولة لركوب موجة بيان رئاسي رخيص وصف البرغوثي بـ”المدعو”. لكن معتز، مثل أي صيّاد فرص جيد، أراد أن يضع بصمته: “أنا أيضاً أهاجم مصطفى، أين جائزتي؟”
لكن الناس لم تسكت. سقط عليه سيل من الانتقادات والشتائم، حتى اضطر إلى حذف منشوره بصمت. هل اعتذر؟ لا. هل تراجع؟ بالطبع لا. فقط حذف، كأن شيئاً لم يكن، ثم عاد لينشر صوراً عن غزة من فندق في عاصمة ما، بينما يطلب في الخلفية منسق فعالية أن تكون تذكرته على درجة رجال الأعمال.
نعم، معتز اشترط أن تُوفر له مصاريف الطيران والإقامة الفاخرة وأتعاب مالية مقابل المشاركة في أي مؤتمر يتحدث فيه عن غزة. نعم، طلب تفاصيل السفر قبل تفاصيل الضحايا. نعم، حول مأساة مليون ونصف إنسان إلى رزق شخصي. وبكل فخر!
ثم يخرج علينا ليقول: “لم يكن لدي خيار إلا المغادرة”. حقاً؟ لم يكن لديك خيار، ولكن كان لديك الوقت لتسويق نفسك كبطل، وتخصيص رابط إلكتروني يوضح فيه شروطك للمشاركة، كأنك فرقة موسيقية لا تغني إلا بدفعة مقدمة.
في النهاية، لسنا ضد من غادر. ولكننا ضد من استبدل المعاناة بالمزايدة، وضد من تخلى عن الصمت النبيل ليعتلي منصة التحريض الأرعن. أنتم لا تناضلون، أنتم تتاجرون. لا ترفعون الصوت من أجل غزة، بل ترفعونه فوقها.
غزة لا تحتاج متحدثين من الخارج، بل شهودًا من داخل الألم. لا تحتاج من يشترط فندقًا بخمس نجوم، بل من ينام تحت نجوم الغارات. فاكذبوا كما شئتم… ولكن لا تطالبونا بالتصفيق.
روابط ذات صلة: منظمات المجتمع المدني في غزة ترفض ربط اسمها بعمر شعبان