كيف يعترف الإسرائيليون بجرائم الحرب في غزة دون أن يقولوا ذلك؟
بعد أن اختفت المساعدات الإنسانية المقدمة إلى غزة مؤقتًا من دائرة الأخبار، عادت إلى دائرة الضوء في وقت يعترف الإسرائيليون بجرائم الحرب في غزة دون أن يقولوا ذلك.
ولقد لفتت إدارة بايدن الانتباه إلى هذا الموضوع في منتصف أكتوبر/تشرين الأول عندما أصدرت مطالبات لإسرائيل بتحسين وصول المساعدات الإنسانية، ومرة أخرى في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني عندما اختارت عدم محاسبة إسرائيل بعد فشلها في تلبية أي من هذه المطالب.
وفي أواخر الشهر الماضي، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ورئيس الجيش السابق يوآف جالانت بتهمة ارتكاب جريمة حرب تتمثل في التجويع كأسلوب من أساليب الحرب، من بين تهم أخرى.
ووفقاً للمحكمة الجنائية الدولية، فإن السلوك الإسرائيلي “أدى إلى تعطيل قدرة المنظمات الإنسانية على توفير الغذاء وغيره من السلع الأساسية للسكان المحتاجين في غزة”.
وفي هذا الشهر، خلصت منظمة العفو الدولية إلى أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة، مشيرة إلى العرقلة الإسرائيلية للمساعدات الإنسانية كدليل على أنها “تفرض عمداً على الفلسطينيين في غزة ظروف معيشية مصممة لإحداث تدميرهم المادي”، وهو أحد ثلاثة أفعال إبادة جماعية يتم تنفيذها في غزة.
وبالإضافة إلى تشويه سمعة منظمات العدالة وحقوق الإنسان الدولية، تروج السلطات الإسرائيلية إلى نفى الاتهامات المستمرة بعرقلة المساعدات الإنسانية المقدمة إلى غزة.
وكدليل على ذلك، تتفاخر بأرقام مثيرة للإعجاب من وحدة تنسيق أنشطة الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة ــ الوحدة العسكرية الإسرائيلية التي تشرف على جميع العمليات الإنسانية في الجيب المحاصر ــ وتتفاخر بوسائل الإعلام التي ترعاها الدولة والتي تصور وفرة المساعدات في غزة، في انتظار التسليم.
ومن عجيب المفارقات أن هذه التصريحات التي أدلى بها مسؤولون إسرائيليون هي في واقع الأمر اعترافات بارتكاب جرائم حرب.
والواقع أن النية الإسرائيلية من خلال هذه المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي تتلخص في تبرئة نفسها أمام محكمة الرأي العام ــ وربما المحاكم الدولية أيضا ــ ولكنها في واقع الأمر تتصرف وكأنها شاهد نجم.
البيانات الإسرائيلية تقول إنها تمنع المساعدات
في الثالث من ديسمبر/كانون الأول، زعم المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية، أورين مارمورشتاين، أن “إسرائيل… لا تفرض أي قيود على كمية المساعدات التي تدخل قطاع غزة”. لكن البيانات الإسرائيلية نفسها تقول عكس ذلك.
في مواجهة ردود الفعل الدولية العنيفة بعد قتل عمال مطبخ وورلد سنترال، أعلن جيش الاحتلال عن تدابير إنسانية جديدة في أبريل/نيسان 2024، متعهدا بأن نتوقع أن نرى “متوسط عدد الشاحنات اليومية المحملة بالغذاء والمياه والأدوية وإمدادات المأوى التي تدخل غزة يرتفع… إلى حوالي 500 شاحنة يوميا”.
وهذا أقل كثيرا من حصة 600 شاحنة مساعدات يومية التي قدرت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية أنها ضرورية لتجنب المجاعة في غزة، ولكن لا يزال هذا تحسنا مرحبا به بالنظر إلى أن متوسط عدد الشاحنات التي دخلت غزة يوميا حتى تلك النقطة (يناير/كانون الثاني – مارس/آذار 2024) كان 153 شاحنة فقط.
وقد بلغ المعدل اليومي منذ ذلك الحين 152 شاحنة يوميا.
كما يُظهِر تحليلي لبيانات جيش الاحتلال أن المساعدات الواردة وصلت إلى أدنى مستوى لها خلال الشهرين الماضيين.
فقد سمح الاحتلال بدخول 1789 شاحنة فقط إلى غزة في أكتوبر/تشرين الأول و2670 شاحنة في نوفمبر/تشرين الثاني ــ وهو أدنى مستوى وثاني أدنى مستوى شهري في عام 2024 على التوالي. وهذا يعني 58 شاحنة يوميا في أكتوبر/تشرين الأول و89 شاحنة في نوفمبر/تشرين الثاني.
لكن ما الذي يفسر هذا النقص في المساعدات؟ إن المشكلة لا تتعلق بالإمدادات ـ ففي كل يوم من الأيام تنتظر مئات أو آلاف الشاحنات المحملة بالمساعدات الإذن الإسرائيلي بالدخول إلى غزة.
وقد أعلن المكتب الصحفي للحكومة الإسرائيلية مؤخراً أن 900 شاحنة مساعدات كانت متوقفة خارج معبر واحد فقط.
ولا يمكن أن نعزو تراجع الإغاثة إلى الطلب عليها، لأن الاحتياجات الإنسانية في غزة أعلى من أي وقت مضى.
بل إن النقص الحاد في المساعدات يرجع إلى أن “إسرائيل” قررت على ما يبدو ضرورة وجود مساعدات، وهو ما ينتهك القانون الدولي.
وتنص المادة 8 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998 على أن “استخدام تجويع المدنيين عمداً كأسلوب من أساليب الحرب من خلال حرمانهم من الأشياء التي لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك عرقلة إمدادات الإغاثة عمداً على النحو المنصوص عليه في اتفاقيات جنيف” يشكل جريمة حرب.
التجريم الذاتي
تعترف “إسرائيل” ضمناً بعرقلة المساعدات الإنسانية عمداً على وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي محاولة واضحة لرفض الاتهامات الموجهة إليها بعرقلة وصول الغذاء وغيره من أشكال الإغاثة إلى غزة، تنشر حسابات تديرها الحكومة الإسرائيلية تحديثات منتظمة عن أنشطتها الإنسانية.
ويتضمن المنشور النموذجي كمية المساعدات الواردة في يوم معين وصورة تظهر وفرة المساعدات في غزة.
إن المفارقة هنا هي أن “إسرائيل” تعترف بنشر هذا المحتوى الترويجي بعرقلة المساعدات الإنسانية على أساس يومي تقريبا.
أولا، من خلال تسليط الضوء على عدد الشاحنات الواردة يوميا والذي يقل عدة مرات عن الاحتياجات الإنسانية.
وثانيا، من خلال تقديم أدلة بصرية على أنها تبالغ بشكل مصطنع في إجمالي المساعدات من خلال احتساب الشاحنات نصف الممتلئة على أنها شاحنات كاملة ــ وعادة ما تحدد قوات الاحتلال شاحنات المساعدات الإنسانية بنسبة 50% من طاقتها، لأسباب أمنية مزعومة.
كما أن الاحتلال يبالغ في أرقام مساعداته من خلال إدراج الشحنات التجارية كمساعدات إنسانية، على الرغم من أن الأولى باهظة التكلفة بالنسبة لمعظم الناس في غزة، والثانية فقط موجهة نحو الاحتياجات الإنسانية.
انتهاك القانون الدولي
إن الأمر الحاسم أن القانون الدولي يطالب القوة المحتلة بأكثر من مجرد الموافقة على دخول المساعدات الإنسانية إلى الأراضي التي تحتلها ــ بل يتعين عليها أن تضمن تسليم المساعدات بالفعل. وتنص المادة 59 من الاتفاقية على ما يلي:
إذا كان كل أو جزء من سكان الأراضي المحتلة يعانون من نقص الإمدادات الكافية، فإن القوة المحتلة يجب أن توافق على مشاريع الإغاثة لصالح هؤلاء السكان، وتسهل تنفيذها بكل الوسائل المتاحة لها.
إن التعليق الرسمي للجنة الدولية للصليب الأحمر على قوانين الحرب يوضح أن اتفاقية جنيف الرابعة “لا تنص فقط على أن القوة المحتلة يجب أن توافق على خطط الإغاثة نيابة عن السكان، بل يجب عليها أيضاً أن تتعاون بكل إخلاص في التنفيذ السريع والدقيق” لعمليات الإغاثة. و”إسرائيل” من الدول الموقعة على هذه الاتفاقية.
وعلى غرار إدارة بايدن، تعتقد الحكومة الإسرائيلية أنها مخولة بانتهاك القانون الدولي، لكنها تريد بشدة تجنب النظر إليها باعتبارها من النوع الذي ينتهك القانون الدولي. إن تبني هذا النوع من النفاق هو وصفة لتجريم الذات، كما تظهر حسابات وسائل التواصل الاجتماعي التي تديرها الحكومة الإسرائيلية بشكل متكرر.