التخاذل الصارخ للسلطة الفلسطينية: الرهان على الفتات في مواجهة الإبادة
على مدار أكثر من 13 شهرا من حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على قطاع غزة، أظهرت قيادة السلطة الفلسطينية في رام الله حالة من التخاذل الصارخ واختارت سياسة النأي بالنفس والرهان على كسب الفتات.
في الضفة الغربية المحتلة حافظت السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية على “التنسيق الأمني المقدس” وضاعفت جهودها في كافة القرى والمدن لمنع أي نشاط مقاوم من شأنه أن يشكل أي حالة إسناد لغزة.
أما في التعامل مع غزة، فقد حيدت السلطة نفسها منذ اليوم الأول لحرب الإبادة الإسرائيلية واختارت في أحسن الأحوال سياسة انتظار مآلات الحرب متخلية عن أي مسئولية وطنية أو أخلاقية عن غزة وأهلها.
ومع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مع كل ما حمله من عدائية شديدة للقضية الفلسطينية في ولايته الأولى سيطرة التأييد المطلق لإسرائيل على الشخصيات المركزية في إدارته القادمة، فإن السلطة في رام الله تتمسك بموقف دفن الرأس في الرمال بديلا عن أي مواجهة.
معضلة الانتظار المفتوح
إن المعضلة التي نواجهها أن هناك من يرى من الفلسطينيين والعرب النافذين، أن ليس أمامهم سوى الانتظار لنرى ماذا سنفعل بعد أن تتضح سياسة ترامب، أو سوى الانخراط في المخطط؛ لعدم توفر القدرة على مواجهته، وبحجة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، والحصول على الفتات الذي يرون أنه أفضل من لا شيء، بحسب ما يرى مدير مركز مسارات للأبحاث والدراسات في رام الله هاني المصري.
ويشير المصري إلى قيادات السلطة تذهب بعيدًا، وتريد أن تقنع نفسها أو تضلل الآخرين بأن هناك ترامب جديدًا يختلف عن ترامب القديم، لأنه أقوى بعد أن فاز بالتصويت الشعبي والمجمع الانتخابي، وبعد حصول حزبه على الأغلبية في مجلسي الشيوخ والنواب، وفي ظل سيطرته على محكمة العدل العليا، وكونه ليس بحاجة إلى أصوات مجموعات الضغط الصهيونية لأنه لن يترشح مرة أخرى.
وهؤلاء يرددون هذه الخزعبلات على الرغم من أن التعيينات التي أقدم عليها ترامب لا تترك مجالًا للخطأ في التقديرات، وأنه سيسير في سياسته السابقة وربما بشكل أسوأ وبسرعة أكثر إذا لم يجد من يرده، ومن خلال ظهور ما يكفي من مؤشرات بأنه سيخسر إذا عاود السير في تصفية القضية الفلسطينية.
إذ أن ترامب رغم عقيدته وارتباطاته وجنونه مؤمن بعقد الصفقات المربحة وتجنب الخسارة بعيدًا عن المؤسسات والقيم والأخلاق، وهذا يتطلب القيام بإجراءات فورية وتحديد قائمة بالإجراءات التي ستتخذ فلسطينيًا وعربيًا وإقليميًا وأوروبيًا ودوليًا إذا نفذ مخطط الضم للضفة الغربية.
متطلبات وطنية ترفضها السلطة
بحسب المصري فإن هناك فرق بين رؤية أن ترامب الجديد سيئ وربما أسوأ من السابق، وبين من يعتبره جيدًا وسيوقف الحروب ويحل القضية الفلسطينية حلًا عادلًا أو متوازنًا.
ويؤكد أن الخطوة الأخرى المطلوبة ترتيب البيت الفلسطيني، على أساس برنامج وطني واقعي يجسد القواسم المشتركة، ويحقق وحدة السلطة والنظام السياسي والقيادة، وخضوع السلاح وكل أشكال العمل والكفاح لاستراتيجية وطنية واحدة متوافق عليها.
وذلك من خلال تطبيق تفاهمات المصالحة، والتركيز على وقف الإبادة الجماعية والإغاثة والانسحاب وإعادة الإعمار، وفتح أفق سياسي قادر على إنهاء الاحتلال وإنجاز الاستقلال، لأن وقف العدوان وحده على أهميته من دون إعادة الإعمار يفتح أبواب التهجير الذي سيأخذ اسم الهجرة.
ويبرز المصري أن طريق النجاة لا يمكن أن يتم بسياسة قيادة السلطة التي اختارت سياسة الانتظار والنأي بالنفس لتجنب الإبادة، وأنها لن تضع رأسها إلى جانب رأس حركة “حماس” تحت المقصلة.
ويشدد على أن مخطط تصفية القضية الفلسطينية بدأ قبل السابع من أكتوبر وسيتواصل بعده إذا لم تتوفر مستلزمات إحباطه، ولذلك نرى القيادة تراوغ في إتمام إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، وتهدف من خلال الاتصالات والاجتماعات الداخلية إقناع حماس بالتخلي عن كل شيء، حتى عن أي مشاركة حقيقية من فوق أو تحت الطاولة.
وذلك بعدم مشاركتها في حكومة الوفاق الوطني وهذا محل توافق وطني، ولا في أي شيء، بما في ذلك تشكيل اللجنة الإدارية أو لجنة الإسناد المجتمعي، التي من المفترض أن يشكلها الرئيس محمود عباس وحده بمرسوم رئاسي ومرجعيتها وموازنتها من الحكومة المختلف عليها.
وتريد السلطة تشكيل أي لجان من دون تفعيل الإطار القيادي المؤقت على طريق إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير، وحتى من دون مقابل ولا موافقة دولة الاحتلال عليها ولا ضمان موافقة واشنطن، خصوصًا إدارة ترمب الجديدة.
ويعتبر المصري أن تشكيل لجنة إدارية أو إسناد مجتمعي لا ضرورة لها أبدًا، ولكن تشكيلها قبل أو من دون تشكيل حكومة وفاق وطني خطأ فادح كونه يُنشئ إطارًا حكوميًا منفصلًا عن السلطة بعد أن يصدر الرئيس مرسومًا بخصوصه، ويراد له أن يكون بديلًا من حماس والسلطة وتحت إشراف (وصاية) عربي وإقليمي ودولي وفي ظل السيطرة الإسرائيلية.
كما يؤكد أن سياسة النأي بالنفس وعدم إعطاء الأولوية لإنجاز الوحدة لن تنقذ رأس قيادة السلطة، ولن تحافظ على السلطة، ولن تمنع إحياء صفقة ترامب، ولن تحول دون الضم وحتى الإبادة والتهجير الآتية في الضفة إذا نجح المخطط الموضوع، بل ستساعد السلطة على تحقيقها بسرعة وبأقل التكاليف.
والدور الفلسطيني المطلوب من القيادة الحالية، أميركيًا وإسرائيليًا، وفق ما يرى المصري، هو دور ذكر النحل؛ أي التلقيح والتخلص منه بعد ذلك، فلا يراد للسلطة أن تعود إلى غزة ولا تبقى سلطة واحدة في الضفة ولا أن تقود دولة، لأن الإسرائيليين لا يريدون أي تجسيد لهوية وطنية واحدة تبقي الطريق لإقامة الدولة الفلسطينية مفتوحًا.
الخطوات المطلوبة فلسطينيا
أولًا: سحب الاعتراف بدولة الاحتلال التي لا تعترف بأي حق فلسطيني وتقوم بإبادة جماعية في غزة وضم زاحف وإبادة تدريجية في الضفة، ضمن وحدة حقيقية على أساس مقاربة جديدة شاملة تتضمن تغيير موازين القوى لتفتح الطريق لعملية سياسية مختلفة جذريًا عن سابقتها، والمباشرة في تشكيل وفد فلسطيني موحد للتفاوض بشأن وقف العدوان وصفقة تبادل الأسرى وكل شيء.
فهذه حرب على الكل الفلسطيني ولا يجب أن تنفرد حماس بالتفاوض، وهذا من شأنه أن يقلل من الضغط على حماس، ويقوي الموقف التفاوضي الفلسطيني.
وإذا تقاعس أي طرف لا بد من الشروع في الوحدة والعمل المشترك بين كل المؤمنين بأن الوحدة ضرورة وقانون الانتصار لأي حركة تحرر وطني.
ثانيًا: بناء موقف عربي شامل يدافع عن الحقوق الفلسطينية والعربية، لا سيما دور سعودي، لأن التركيز سيتم على جر الرياض إلى التطبيع، ويقطع الطريق على دمج إسرائيل في المنطقة بالقفز عن القضية الفلسطينية، وهذا إن حدث – أي دمج (إسرائيل) – سيقزم السعودية ويشرذم العرب أكثر، ويلحق أفدح الأضرار بالمصالح والحقوق العربية.
وهذا الموقف العربي المشترك يستند إلى أن عالمًا جديدًا يتقدم وإن ببطء وعالمًا قديمًا ينهار، وإلى أن الدول العربية، خصوصًا الخليجية، باتت في وضع أفضل، كما ترتبط بعلاقات اقتصادية مع الصين وروسيا وإيران أكبر من علاقاتها مع أميركا بكثير.
ثالثًا: بناء تحالف أو على الأقل علاقات حسن جوار وتعاون عربي إيراني تركي، لقطع الطريق على ابتزاز دول الخليج وحلب ثرواتها، بحجة حمايتها من الخطر الإيراني الذي يصور على أن طهران عدو العرب، وذلك بمواصلة طريق تحسن العلاقات السعودية والعربية الإيرانية الذي بدأ بإعلان بكين في آذار/ مارس 2023.
ولعل تحسن علاقات عدد من الدول العربية مع إيران وما ورد في بيان القمة العربية الإسلامية الأخيرة بشأن إدانة العدوان على إيران، والاستعداد كما جاء في الأخبار لمناورة عسكرية إيرانية سعودية مشتركة مؤشرات على هذا الطريق.
رابعًا: إقامة حلف عالمي يضم أوروبا والصين وروسيا ودول الجنوب التي ستكون متضررة كلها من سياسة ترمب “أميركا أولًا”، وكذلك يضم كل مناصري القضية الفلسطينية من أجل إنهاء الاحتلال وإنجاز استقلال دولة فلسطين على حدود 67 وعاصمتها القدس، بوصف ذلك خطوة على طريق حل جذري وتاريخي يحقق العدالة.
وذلك على أساس حل شامل لكل أبعاد القضية الفلسطينية، على أساس هزيمة المشروع الاستعماري الاستيطاني، وتفكيك نظام الفصل العنصري.