الأردن يجابه التحديات الإسرائيلية المتطرفة بمزيد من التواطؤ والتخاذل
يصر النظام الأردني على مجابهة التحديات التي تفرضها الحكومة الإسرائيلية المتطرفة بما في ذلك ما تمثله من مخاطر على حاضر ومستقبل المملكة بمزيد من التواطؤ والتخاذل والإصرار على الوقوف بمربع دولة الاحتلال وقمع كل احتجاجات شعبية على هذا الموقف المخزي.
وفي ظل التواطؤ الذي يخيم على مواقف عمان، لا يفاجأ حد الخبر المتكرر بانتظام منذ السابع من أكتوبر 2023، بأن الأمن الأردني يغلق كل الطرق المؤدية إلى مقر السفارة الإسرائيلية غربي عمان لمنع أي احتجاجات شعبية وتضامن مع غزة.
لكن هذا الحدث الميداني المتكرر هو غيض من فيض في مسلسل التواطؤ والتخاذل الذي يصر عليه النظام الأردني الذي يسجل بأنه سمح بنقل أول شحنة عسكرية أمريكية ل(إسرائيل) عبر أراضيه منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية.
بل إن النظام الأردني بادر لإقامة شريط أمني بمسافة خمسة كيلو على طول الحدود الأردنية لحماية دولة الاحتلال فضلا عن الدعم المطلق ل(إسرائيل) على كافة المستويات وفتح المجال الجوي كبدائل لها بل والوقوف بجدار حماية عنها.
القلق على وضع الأردن
يأتي ذلك فيما يبرز المراقبون القلق على وضع الأردن مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وهو الذي يعلن علنا أنه لا يرى حلاً للقضية الفلسطينية ومشكلات ((إسرائيل)) الديمغرافية والجغرافية والأمنية إلا على حساب محيطها العربي، والأردن في القلب منه.
ويشير المحلل أسامة أبو ارشيد إلى أن ترامب كان قال علنا في أغسطس/ آب الماضي، بعد نحو أسبوعين من لقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في ولاية فلوريدا، إن مساحة (إسرائيل) صغيرة جداً على الخريطة، وينبغي التفكير في كيفية توسيعها.
يزيد ذلك أهمية النظر إلى رؤية ترامب في ولايته الأولى (2017-2021) في الاعتبار، والتي أطّرتها خطّة “السلام من أجل الازدهار: رؤية لتحسين حياة الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي”، أو “صفقة القرن”، كما تُعرف إعلامياً، والتي أطلقتها إدارته في أواخر يناير/ كانون الثاني 2020.
وبحسب رؤية ترامب وخطته فإنه ليس الضفة الغربية وحدها في خطر اليوم (طبعاً قطاع غزّة تحصيل حاصل في ظل العدوان الإسرائيلي المتواصل عليه)، بل الأردن نفسه، عبر ملفّين أساسيين، الأرض والديموغرافيا.
تصريحات علنية لا تنسجم مع السياسات المتخذة
إعلاميا يكرر العاهل الأردني عبد الله الثاني كما فعل في خطاب العرش الذي ألقاه في 18 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، أن مستقبل الأردن “لن يكون خاضعاً لسياساتٍ لا تلبّي مصالحه أو تخرج عن مبادئه. وستبقى قدس العروبة أولوية أردنية هاشمية”.
وهناك مؤشرات واضحة على أن ولاية ترامب الرئاسية الثانية إن لم تكن أكثر انحيازاً لإسرائيل من ولايته الأولى فإنها لن تقلّ عنها. والأرجح أنها ستكون أكثر انحيازاً وخطورة وكارثية.
لا يتعلق الأمر هنا بتصريحاته المتكرّرة عن دعمه حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة فحسب، وتلميحه إلى أنه سيمكّن تل أبيب من ضمِّ أجزاء من القطاع، مثل قوله إن المطوّرين العقاريين يمكن أن يجعلوا غزّة “أفضل من موناكو”، لأنها تتمتع “بأفضل موقع في الشرق الأوسط، وأفضل مياه”.
بل كذلك في نوعية الأسماء التي رشّحها لتشغل مناصب رفيعة في السياسة الخارجية الأميركية، ويعد الانحياز الأعمى لإسرائيل قاسماً مشتركاً بينهم.
يكفي هنا أن تنظر إلى مرشّحه لوزارة الخارجية ماركو روبيو، ومرشحه سفيراً في (إسرائيل)، حاكم ولاية أركنسا السابق، القسيس الإنجيلي مايك هاكابي، الذي ينكر وجود الفلسطينيين أصلاً، ويصرّ على الإحالة إلى الضفة الغربية باسمها التوراتي “يهودا والسامرة” ويعدّها جزءاً من (إسرائيل).
أما مبعوثه الخاص القادم إلى الشرق الأوسط فهو ستيفن ويتكوف، قطب العقارات اليهودي الصهيوني في نيويورك.
إذن، خلفيات التوجس الفلسطيني من ترامب مفهومة راهناً، خصوصاً وأنه أثبت خطورته عليهم في ولايته الأولى، مثل اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها.
وكذلك إغلاق إدارته حينها مكتب بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وقطع التمويل عن وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا).
فضلاً عن تراجع وزارة الخارجية في عهده عن موقفٍ تبنّته الوزارة عقوداً، تحت إدارات ديمقراطية وجمهورية متعاقبة، لناحية عدم شرعية المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية.
معلوم أن اليمين الإسرائيلي ما فتئ يصرّ على أن الأردن هي فلسطين، بل إنه يذهب أبعد من ذلك عبر الادّعاء أن “الضفة الشرقية”، والتي هي جزء أصيل من المملكة الأردنية بحدودها المعروفة منذ 1925، كانت نزعت عام 1922 بتوصية من وزير المستعمرات البريطاني حينها، ونستون تشرشل، من “حصّة” (إسرائيل) في “وعد بلفور” المشؤوم عام 1917، والذي تعهّدت فيه الحكومة البريطانية بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
وتتضاعف خطورة هذا المعطى اليميني الصهيوني بالإشارة إلى موقف كان عبّر عنه السير أليك كيركبرايد الذي كان ممثلا لبريطانيا في الأردن ورئيس “حكومة مؤاب الوطنية” في الكرك عام 1920 إلى حين قدوم الأمير عبد الله بن الحسين عام 1921، مفاده بأن تشكيل “إمارة شرق الأردن” جاء لكي “تكون بمثابة احتياطي الأرض التي ستستخدم في إعادة توطين العرب، متى ما قام الوطن القومي لليهود في فلسطين”.
إذا عُدنا إلى “صفقة القرن” التي كانت إدارة ترامب طرحتها عام 2020، سنجد أنفسنا أمام تجسيد حيٍّ وعمليٍّ لمزاعم وادعاءات اليمين الصهيوني.
وذلك عبر ملفين رئيسيين: الأرض واللاجئين، واللذين يرتبطان بالأردن تحديداً.
وفي مسألة الأرض، تزعم الخطة أن (إسرائيل) قد انسحبت عملياً من 88% من الأراضي التي احتلتها عام 1967.
وبناء على ذلك، تقترح ما يبدو أنه عرض لتبادل أراض بين (إسرائيل) والدولة الفلسطينية، بما يتضمّن شكلاً من أشكال التهجير (الترانسفير) الديمغرافي.
وحسب الخطة، ستنقل الدولة العبرية “مساحة واسعة” من أراضي “تملك (إسرائيل) فيها ادّعاءات قانونية وتاريخية شرعية، وهي جزءٌ من الوطن القومي لأسلاف الشعب اليهودي”.
وتقرّ الخطة بأن 87% من “الأراضي الإسرائيلية في الضفة الغربية سيتم ضمّها إلى الأراضي الإسرائيلية المجاورة، و97% من الفلسطينيين في الضفة الغربية سينضمّون إلى الأراضي الفلسطينية المجاورة”.
أمّا الـ3% المتبقين من المواطنين الفلسطينيين، والذين سيعيشون “ضمن جيوب فلسطينية داخل الأراضي الإسرائيلية”، فتنصّ الخطّة على أنهم سيكونون مواطنين فلسطينيين، على أن تخضع “الجيوب التي يعيشون فيها وطرق وصولهم (إلى الدولة الفلسطينية) للسيادة الإسرائيلية”.
الترانسفير الديمغرافي
لا تتردّد الخطّة في طرح فكرة “الترانسفير” الديمغرافي لرفع العبء عن (إسرائيل)، خصوصاً في منطقة المثلث، والتي تحدّدها الخطة بـ”كفر قرع، عرعرة، باقة الغربية، أم الفحم، قلنسوة، الطيبة، كفر قاسم، الطيرة، كفر برا، جلجولية”، وهي البلدات التي يقطنها فلسطينيون يحملون الجنسية الإسرائيلية.
وحسب الخطّة، لن تكتفي (إسرائيل) بضم المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، بل كذلك “غور الأردن، المنطقة الحاسمة للأمن القومي الإسرائيلي، سيبقى تحت السيادة الإسرائيلية” المطلقة
بمعنى أنه ما بين المستوطنات وغور الأردن سيُقضم من مساحة الضفة الغربية ما لا يقل عن 60% من مساحتها. وإذا أخذنا في الاعتبار أن مساحة الضفة هي 5.655 كيلومتراً مربعاً، بعدد سكان في حدود 3.5 ملايين فلسطيني، فإنه لن يتبقى لهم إلا ما مساحته 3.393 كيلومتراً مربعاً من المدن والبلدات المقطعة والكانتونات المعزولة ليعيشوا فيها
فكيف إذا أضفنا إليهم مليون مواطن فلسطيني آخر من منطقة المثلث من حمَلَة الجنسية الإسرائيلية حالياً؟ أين سيذهب كل هؤلاء؟ طبعاً، إلى الأردن المطالب بتحقيق فيدرالية أو كونفدرالية مع ما قد يتم تسميته زوراً وبهتاناً “دولة فلسطينية”.
ولا تقف الخطورة هنا، إذ تشدّد الخطة أيضاً على أن توقيع اتفاق سلام فلسطيني – إسرائيلي ينبغي أن يتضمّن إنهاء أي مزاعم تاريخية أو حقوقية، مثل “حقّ العودة” للاجئين الفلسطينيين.
وتؤكد الخطّة بلغة صارمة أنه “لن يكون هناك أي حقّ في العودة، ولا استيعاب لأي لاجئ فلسطيني في دولة (إسرائيل)”.
وتعتبر الخطة أن ملف اللجوء الفلسطيني استخدم لتأبيد الصراع، خصوصاً عبر وكالة أونروا، في حين عومل اللاجئون الفلسطينيون، على مدار الـ70 عاماً الماضية، كـ”بيادق على رقعة الشطرنج الأوسع في الشرق الأوسط”.
وتشير الخطة إلى أن “الإخوة العرب” للفلسطينيين “يتحمّلون المسؤولية الأخلاقية عن إدماجهم في بلادهم”، كما دمجت (إسرائيل) اللاجئين اليهود.
وتشدّد الخطة على أن اللاجئين المستقرّين في أماكن دائمة لن يُسمح لهم بالعودة والتوطين، ويبدو أنها إشارة إلى أنهم سيُمنعون من الانتقال إلى الدولة الفلسطينية كذلك، مع بقاء حقّ التعويض لهم ضمن آلية دولية خاصة.
مرة أخرى، كان الأردن وسيكون في عين العاصفة إن قرّر ترامب أن يمضي في هذه الرؤية الصهيونية اليمينية المتطرّفة، خصوصاً وأن هناك ملايين اللاجئين الفلسطينيين فيه.
وإذا ما تفحصنا تصريحات ترامب بأنه سيسعى إلى التركيز على التطبيع العربي – الإسرائيلي، بمعنى تهميش الحقوق الفلسطينية، كما فعل في رئاسته الأولى من خلال “الاتفاقات الإبراهيمية”، وإذا ما نظرنا كذلك إلى نوعية وقناعات مرشحيه المتطرفين لمواقع في السياسة الخارجية، فإن توجّس الأردن، كما الفلسطينيين، مشروع وحقيقي.
لكن الرد الفعلي والمطلوب شعبيا يبقي التحول في الموقف الرسمي لعمان لمجابهة التحديات والتغلب عليها بدلا من دعم تحققها فعليا ولو تدريجيا كما يجرى منذ سنوات، لا سيما بالتخاذل عما يجرى في غزة.