الطريق الطويل للعودة إلى الوطن لنازحي غزة
يواصل مئات آلاف النازحين الفلسطينيين رحلة الطريق الطويل للعودة إلى الوطن بعد 15 شهرًا من حرب الإبادة الجماعية، على الرغم من معرفتهم أنهم يعودون إلى أرض قاحلة.
وقد كانت العودة إلى حي “الشيخ رضوان” في شمال غزة بالنسبة لعبد العزيز حمد بمثابة تجربة مريرة. كان منزله لا يزال قائماً، وإن كان قد تضرر، لكن الحياة التي بناها حوله دمرت تماماً بسبب 15 شهراً من الهجمات الإسرائيلية الوحشية.
لقد استشهد أقاربه وأصدقاؤه ومعارفه، وفقد وظيفته كمدير لشركة تأجير سيارات لأن السيارات والمكتب وكل معداتهم قد دمرت. وقد أصيب بصدمة نفسية بسبب أكثر من عام من الحرب والحياة كلاجئ.
“تجربتي في هذه الحرب لا يمكن وصفها بالكلمات. لقد كانت مدمرة بكل المقاييس”، هكذا قال الشاب البالغ من العمر 24 عامًا. “لقد خسرت كل ما عملت من أجله”.
كان الأمل في أن تنتهي الحرب أخيراً، وأن يصبح وقف إطلاق النار الهش دائماً، هو ما دفعه إلى مواصلة السير في طريقه نحو أنقاض مدينته. وتتلخص خطته الأولى في زيارة قبور أحبائه الذين قتلوا في الغارات الجوية والهجمات الإسرائيلية.
وقال “الآن أستطيع أن أعود أخيراً إلى الشمال. كل هذه المعاناة تبدو محتملة إلى حد ما مع الأمل في أن تنتهي الحرب”، مضيفا “كل ما أستطيع قوله هو الحمد لله. سوف يتلاشى الإرهاق الناجم عن المشي الطويل إلى لا شيء بمجرد أن أضع قدمي أخيراً في منزلي”.
إن شمال غزة هو المنطقة الأكثر تضرراً في قطاع غزة المدمر، وكانت الحشود الضخمة التي كانت تسير على طول شاطئ البحر الأبيض المتوسط تعلم أنها تعود إلى أرض قاحلة.
وكان يأسهم من العودة بمثابة شهادة على الأهوال التي عانوا منها أثناء نزوحهم، وانتقالهم بين الملاجئ المكتظة والمخيمات المؤقتة.
العودة إلى الجنة
“أعلم أنني سأعود إلى مكان يبدو كالجحيم بسبب الدمار الذي يحيط به من كل جانب”، هكذا قال رائد سعيد صبح البالغ من العمر 25 عاماً، والذي نزح خمس مرات أثناء الحرب. كان يعلم أن منزله قد دمر، لكنه أراد أن يقبل الأرض التي كان عليها.
وقال “رغم كل شيء عدنا إلى غزة متحديين الاحتلال! أشعر وكأنني في الجنة! سأقيم خيمة فوق أنقاض منزلي الذي كان قائماً ذات يوم”.
كان ينتظر مع آلاف آخرين في البرد القارس في ليلة من ليالي شهر يناير/كانون الثاني، خارج نقطة التفتيش الساحلية التي أغلقت لأكثر من عام الطريق إلى الشمال، حيث يُسمح للسكان بالعبور سيرًا على الأقدام. واصطفت المركبات خارج معبر ثانٍ في الشرق.
حمل الحشد كل ما استعادوه من الحرب ـ الفراش والملابس وقليل من الطعام. وسلم بعضهم خيامهم لأصدقائهم وعائلاتهم، قبل أن ينطلقوا نحو طريق على الشاطئ كان يستخدم في السابق للسفر في نزهات عائلية ورحلات نهاية الأسبوع وحفلات قبل الحرب.
وفي الساعة السابعة صباحاً انفتحت نقطة التفتيش وبدأ النازحون بالخروج منها، توافدوا على كل الطرق المؤدية إلى الشاطئ، وكانت الفرحة مختلطة بالحزن، وكان الجميع منهكين بالفعل قبل أن يبدؤوا مسيرتهم الطويلة نحو الشمال.
أثارت الحشود الغفيرة سحبًا من الغبار من الطريق المتسخ، مما أدى إلى تحول الملابس والوجوه إلى لون رمادي. كان الحشد كبيرًا لدرجة أن بعض الأطفال فقدوا عائلاتهم في التدافع.
تجولوا وهم يبكون في الطابور، ولكن مع انقطاع شبكة الهاتف، لم يتمكن حتى أولئك الذين يحملون الهواتف المحمولة من الاتصال طلبًا للمساعدة. كانت سالي أبو وردة، 36 عامًا، تنتظر زوجها على الطريق خارج مدينة غزة، وتصلي أن يعود قريبًا مع ابن زوجها.
قالت سالي “في بداية اليوم، كنا سعداء للغاية لأننا سنعود أخيرًا إلى منزلنا في جباليا. استيقظنا متحمسين، وحزمنا أمتعتنا، وانطلقنا بحيوية وحماس. ولكن بعد ذلك، قلب شيء ما يومنا بالكامل رأسًا على عقب”.
وأضافت “في خضم فوضى الحشود، فقدنا ابن زوجي، ولم نعثر عليه بعد. إنه مجرد صبي صغير، لا يدرك الكثير من الأشياء حوله، ولديه احتياجات خاصة. لا يستطيع الرؤية بوضوح. أدعو الله أن يجده زوجي. قلبي ينفطر لأجله”.
وواجه كبار السن صعوبات في الوصول إلى وجهتهم. فقد تم دفع بعضهم في عربات أو كراسي متحركة، أو حملهم أقاربهم على أكتافهم، لكن العديد منهم كانوا يحاولون قطع الرحلة سيرًا على الأقدام وانهاروا.
اختلاط الدموع مع الفرح
وبكى إياد صالحة، وهو خياط يبلغ من العمر 43 عاماً، أيضاً على جانب الطريق أثناء استراحة على بعد بضعة كيلومترات على طول الساحل، لكنه قال إنه كان غارقاً في السعادة بقدر ما كان غارقاً في الإرهاق.
وقال “نسير لبعض الوقت، ثم نستريح قبل أن نستكمل المسير. لا نستطيع إكمال المسير دفعة واحدة لأن الطريق طويل، لكن فرحتنا تمنحنا الطاقة للاستمرار”، ويضيف “لا نشعر بالتعب أو طول المسير. أبكي بلا توقف، لا أستطيع حبس دموع الفرح”.
وقال أحد المقاومين الملثمين من الجناح العسكري لحركة حماس ، من بين العديد من المقاومين الذين اصطفوا على طول الطريق، إن مسيرة العودة إلى الوطن كانت بمثابة عرض للانتصار. وأضاف: “عودتنا هي انتصار مدوٍ، سيضرب رأس نتنياهو ووزراءه العاجزين”.
وقد كانت المسافة إلى مدينة غزة تقترب من عشرة كيلومترات، حيث كان المسافرون إلى الشمال يأملون في العثور على سيارات أو عربات دراجات نارية لنقلهم. لكن الطرق المدمرة كانت خالية من المركبات، لذا أجبروا أنفسهم على مواصلة الرحلة سيرًا على الأقدام.
إن الظروف في الشمال أسوأ من تلك في جنوب غزة. فقد فرض الاحتلال الإسرائيلي حصاراً داخل حصاره على مدينة غزة والمناطق المحيطة بها، مما سمح بدخول عدد أقل من شحنات الغذاء والمساعدات الأخرى إلى الجنوب. وفي الخريف الماضي، حذرت المنظمات الإنسانية من أن المجاعة “وشيكة” هنا.
ومنذ أن سمح اتفاق وقف إطلاق النار بزيادة شحنات المساعدات، قامت الوكالات الإنسانية بتخزين الإمدادات، بما في ذلك الخيام والأغذية هنا، لكنها تحذر من أن تلبية حتى الاحتياجات الأساسية سوف يشكل تحديًا كبيرًا.
كان أغلب العائدين إلى الشمال يدركون ما ينتظرهم ويفضلونه على الحياة في المخيمات المكتظة أو الملاجئ في الجنوب. ولم يؤد اقتراح الرئيس الأميركي دونالد ترمب بأنه يرغب في “تطهير” غزة إلا إلى تعزيز تصميمهم.
وقال ياسر حمدونة من حي النصر والذي عمل موزعاً قبل الحرب: “حذرني أقاربي في الشمال من العودة بسرعة، وقالوا إن الحياة لا تزال صعبة هناك بلا مياه ولا مأوى ودمار هائل، لكن كل هذا لا يهم بالنسبة لي”.
وتابع “لن أعيش هذه التجربة مرة أخرى، حتى لو هددوني بهدم منزلي فوق رأسي، أفضل أن أموت بكرامة في منزلي بين عائلتي على أن أتحمل الإذلال والتشريد الذي عانيناه خلال هذه الحرب”.