المناطق العازلة: سلاح إسرائيلي للتوسع الاستيطاني غير المسبوق
تستخدم دولة الاحتلال الإسرائيلي المناطق العازلة كسلاح للتوسع الاستيطاني غير المسبوق في الضفة الغربية، بحيث أصدرت 13 أمراً عسكرياً خلال العام الماضي لبناء جدران أو أسوار عازلة حول المستوطنات في المناطق الاستراتيجية.
كان زياد مشهور الغفاري يقف في ساحة منزله في قرية سنجل في محافظة رام الله والبيرة، وهو ينظر إلى بستان الزيتون الذي زرعه والده قبل عقود من الزمن والذي دمر الآن.
قبل ثمانية أشهر علم الغفاري أن السلطات الإسرائيلية تخطط لبناء جزء من الجدار يفصل قريته سنجل شمال رام الله عن الطريق الرئيسي، ولم يتم إعطاؤه أي تفاصيل حول تصميم الجدار أو مساره أو قربه من منزله الأقرب إلى الطريق.
وفي نهاية شهر سبتمبر/أيلول، فوجئ الغفاري، كغيره من أهالي القرية، بعدد كبير من قوات الاحتلال ترافقها جرافات عسكرية، عند المدخل الرئيسي للقرية، ثم شرعوا في اقتلاع أشجار الزيتون وتجريف المنطقة المحيطة بمنزله. وفي كل مرة حاول الاقتراب منهم للاستفسار عما يحدث، هددوه بالسلاح وأمروا بالعودة إلى منزله.
كابوس لا ينتهي
قال الغفاري “فجأة، تحولت حياتنا إلى كابوس. لم يعد المنزل آمنًا؛ لا توجد خصوصية، ولا حرية حركة، ولا نعرف متى أو كيف سينتهي هذا الكابوس”.
وقد عاد الغفاري، 62 عاماً، منذ سنوات من الولايات المتحدة بعد غياب دام 40 عاماً لإعادة بناء حياته في مسقط رأسه. وقام بتجديد وترميم منزل عائلته وبدأ بالعناية بأشجار الزيتون المحيطة بالمنزل.
وقال “لقد قضيت كل طفولتي قبل الهجرة هنا. زرع جدي أشجار الزيتون هذه أمامي، ولعبت تحتها مع أطفال جيراني عندما كنت طفلاً. لكن هذه الجرافات دمرتها كلها خلال ساعات، أمام عيني مباشرة”.
وأبلغت الإدارة المدنية الإسرائيلية أهالي قرية سنجل قبل عدة أشهر بنيتها مصادرة 30 دونماً من أراضي القرية لبناء سياج فاصل بطول ألف متر “لحماية أمن المستوطنين الذين يمرون عبر طريق رقم 60″، مستشهدة برشق شبان القرية بالحجارة.
والطريق رقم 60 هو الطريق الرئيسي الذي يربط شمال الضفة الغربية ووسطها وجنوبها.
في تلك الأثناء حاول الغفاري وجميع أهالي القرية الاعتراض على القرار، إلا أن اعتراضاتهم قوبلت بالرفض بحجة أنه أمر عسكري لا يمكن الطعن فيه. وقبل ثلاثة أشهر أصدرت السلطات الإسرائيلية قراراً ثانياً بإضافة جزء آخر من الجدار بطول 500 متر.
مخاوف العزل
يعيش أهالي قرية سنجل، الذين لا يعرفون أي تفاصيل إضافية عن المخطط الإسرائيلي لقريتهم، خوفاً حقيقياً من عزلها عن محيطها.
وبحسب تقديراتهم، وبناء على عمل الجرافات، فإن الجدار يعترض طريق تسعة منازل، كما سيتم عزل 49 منزلا آخر عن القرية، وعزل 8 آلاف دونم من الأراضي الزراعية الواقعة في المنطقة الشمالية الشرقية من القرية والاستيلاء عليها، وضمها إلى أربع مستوطنات أخرى قائمة في المنطقة.
وقال رئيس بلدية سنجل، معز طوافشة: “يحاول المستوطنون منذ سنوات السيطرة على هذه المنطقة، وقد نجح السكان في صدهم. لكنهم الآن يستغلون الحرب ويستخدمون ذرائع واهية مثل منع إلقاء الحجارة”.
منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة قبل عام، مُنع أصحاب الأراضي من الوصول إلى أراضيهم، وأغلقت القوات الإسرائيلية الطريق الرئيسي للقرية، وكل من يحاول الاقتراب يتعرض للهجوم.
وبحسب طوافشة فإن هذا القرار لا يؤثر على القرية فقط، بل يؤثر أيضًا على حرية الحركة على طريق 60.
الفصل بالجملة
وإذا نظرنا إلى نمط القرارات المماثلة الأخرى، فإن “إسرائيل” تهدف من خلال بناء مناطق عازلة حول عدة قرى مثل سنجل في الضفة الغربية، إلى فصل هذه المجتمعات بشكل كامل عن محيطها الفلسطيني ومنع اتصالها بالمنطقة الأوسع.
وبحسب هيئة مقاومة الجدار والاستيطان الفلسطينية، أصدرت “إسرائيل” 13 أمراً عسكرياً بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 لإقامة مناطق عازلة لبناء أقسام من الجدار أو الأسوار حول المستوطنات في المناطق الاستراتيجية بالضفة الغربية.
وتتوزع هذه المناطق على مناطق مختلفة، ففي محافظة رام الله: قرية المزرعة الغربية حول البؤرة الاستيطانية حراش، وقرية دير دبوان حول مستوطنة متسبيه داني.
وفي محافظة سلفيت: ياسوف حول مستوطنة كفار تبواح، إسكاكا حول مستوطنة نفيه نحميا، قرى قراوة بني حسان وحارس حول مستوطنة كرني شمرون، ودير استيا حول مستوطنة رفافا.
في محافظة نابلس: برقة حول مستوطنة حومش، ومنطقة ثانية بالقرب من عورتا وروجيب حول مستوطنة ايتمار، ومنطقة ثالثة في الساوية ويتما حول مستوطنة رحاليم، بالإضافة إلى منطقة رابعة في قرى بورين ومادما وعصيرة القبلية حول مستوطنة يتسهار.
وفي قلقيلية: من المقرر إقامة منطقة عازلة حول مستوطنة كدوميم بالقرب من كفر قدوم. في بيت لحم: قريتي نحالين والجبعة في محيط مستوطنة جفاعوت.
وحول القدس المحتلة: في قرية جبع، من المقرر إنشاء منطقة عازلة حول مستوطنة جيفاع بنيامين.
وبينما لا تزال تفاصيل مخططات الجدار في قرية سنجل غير واضحة، فإن بعض القرى لم تتلق بعد قرارات رسمية بشأن البناء، رغم صدور الأوامر منذ أشهر، كما هو الحال في قرية برقة شمال نابلس.
عودة المستوطنين
وسوف يعمل هذا الجدار على عزل المناطق القريبة من مستوطنة حومش، التي عاد إليها المستوطنون بعد إجلائهم في أعقاب خطة الانسحاب الإسرائيلية التي أخلتها “إسرائيل” بموجبها مستوطنات في غزة وبعض المستوطنات في الضفة الغربية في عام 2005.
وبعد سنوات، في عام 2013، حصل أهالي القرية على قرار من المحكمة العليا الإسرائيلية منحهم الحق في استعادة نحو 1200 دونم من أراضيهم الزراعية التي استولت عليها قوات الاحتلال عام 1978 لبناء المستوطنة.
وبدأ الأهالي في استصلاح أراضيهم والاستعداد للبناء عليها، ليواجهوا الآن معركة جديدة ضد التوسع الاستيطاني.
لكن الضربة الكبرى جاءت في مارس/آذار 2023، عندما وافقت الحكومة الإسرائيلية على مشروع قانون “إلغاء قانون فك الارتباط” في الضفة الغربية، مما يسمح للمستوطنين بالعودة إلى أربع مستوطنات تم تفكيكها، بما في ذلك حومش.
ومنذ ذلك الحين، يهاجم المستوطنون في حومش بشكل متكرر سكان القرية وأراضيهم الزراعية.
وقال رئيس مجلس قروي برقة زياد أبو عمر، إن القضية لا تقتصر على الأراضي المصادرة سابقاً، حيث يقوم المستوطنون الآن بالتوسع في أكثر من 500 دونم جديد من أراضي القرية.
وأضاف “لم نتلق حتى الآن قرارا بمصادرة الأراضي لبناء الجدار، لكننا نرى جرافات إسرائيلية تعمل يوميا في المنطقة، وتجرف الأراضي وتضع المزيد من الأسوار حول الكرافانات التي تم تركيبها مؤخرا”.
وتعتبر هذه الجيوب، رغم خطورتها على التجمعات الفلسطينية المعزولة في الضفة الغربية، جزءاً فقط من مخطط أكبر سيحول الضفة الغربية إلى واقع قاتم، بحسب جمال جمعة، منسق الحملة الشعبية الفلسطينية لمقاومة جدار الفصل العنصري.
وتأتي هذه القرارات ضمن مخطط الضم للضفة الغربية الذي يجري تنفيذه بسرعة مستغلا ظروف الحرب في غزة.
وقال جمعة “ما يحدث على الأرض هو أن هذه الأوامر العسكرية بمصادرة الأراضي هنا وهناك مضللة، ففي حين قد يتحدث الأمر العسكري عن مصادرة 10 دونمات من قرية فلسطينية، فإنه في الواقع يعزل ويصادر آلاف الدونمات المحيطة بها”.
وأضاف أنه “من المقرر في نهاية المطاف ضم هذه الأرض إلى المستوطنات القائمة، وتوسيعها أو إنشاء اتصالات فيما بينها.”
وفي حالة قرية سنجل، فإن القرار يتحدث عن 1500 متر من الجدار ومصادرة 30 دونماً لبنائه، ولكن في الواقع فإن هذا الجدار سوف يعزل 8000 دونم ويلحقها بمستوطنة معاليه ليفونا، ويربطها بمستوطنتي شيلو وعيلي والبؤر الاستيطانية الجديدة، مما يخلق كتلة استيطانية ضخمة في المنطقة، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى إغلاق الطريق بالكامل أمام الفلسطينيين وسيطرة المستوطنين عليها.
إن كل هذه الإجراءات، إلى جانب خطط أخرى لبناء المزيد من المستوطنات وتوسيع المستوطنات الأصغر حجماً، تعمل على ترجيح كفة الميزان في الضفة الغربية، وتحويل المجتمعات الفلسطينية إلى أقلية محصورة في جيوب معزولة، ومفاتيح هذه الجيوب في أيدي الاحتلال الإسرائيلي.
في عام 1995، قسمت اتفاقية أوسلو الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق. وتقع المنطقتان (أ) و(ب) تحت الإدارة المدنية للسلطة الفلسطينية، في حين تظل المنطقة (ج)، التي تشكل نحو 60% من الضفة الغربية، تحت السيطرة العسكرية والمدنية الإسرائيلية الكاملة.
وقال جمعة “الآن نحن نتحدث عن نظام فصل كامل لا يقتصر على ضم المنطقة (ج) بل أيضا المناطق المصنفة (أ) و(ب)، مما يحيط بهذه القرى بالكامل ويسيطر على حركة سكانها”.