معالجات اخبارية

خطة المساعدات الأميركية لغزة: بين الإغاثة الإنسانية والتطويع السياسي

في ذروة الانهيار الإنساني في قطاع غزة، وبينما تحذر منظمات دولية من مجاعة جماعية وشيكة وانهيار كامل للبنى التحتية الصحية والغذائية، أعلنت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن خطة مساعدات إنسانية جديدة لسكان القطاع يرى مراقبون أنها تستهدف الهيمنة والتطويع السياسي.

إذ أن الخطة، التي وُصفت من قبل البيت الأبيض بأنها “استجابة إنسانية مبتكرة”، أثارت ردود فعل واسعة وجدلاً متصاعداً، لا سيما في الأوساط الحقوقية ومراكز الأبحاث، التي تشكك في الدوافع الحقيقية وراء هذه المبادرة.

وفي هذا السياق، أصدر مركز الدراسات السياسية والتنموية ورقة “تقييم حالة” تحت عنوان: “قراءة في خطة المساعدات الأميركية الجديدة لغزة: الأبعاد الإنسانية والسياسية”.

وقد تناول المركز تفاصيل الخطة الأميركية، وسياقها الإقليمي والدولي، وانعكاساتها المحتملة على مستقبل قطاع غزة بعد الحرب، متسائلاً عن طبيعة هذه المساعدات: هل هي استجابة إنسانية خالصة، أم أداة سياسية لإعادة تشكيل البيئة المدنية ضمن أهداف ما بعد الحرب؟

مساعدات مشروطة

وفقاً لما ورد في الورقة التحليلية، فإن خطة المساعدات الأميركية ترتكز على مجموعة من المبادئ التي تنقل العمل الإنساني من نطاقه التقليدي القائم على الحياد والاحتياج، إلى منطق أمني–سياسي، يربط المساعدات بشبكات رقابة وتقييد وضبط اجتماعي.

فالخطة تعتمد على إنشاء “مناطق توزيع مؤمّنة” تشرف عليها جهات أميركية ودولية بالتعاون مع أطراف إقليمية، وتُدار بالتنسيق مع قوات أمن محلية يجري اختيارها بعناية.

ويرى المركز أن هذا النموذج من “الإغاثة المُراقَبة” يعيد تعريف العلاقة بين السكان والمساعدات، ويحوّل الإغاثة إلى أداة لإعادة فرز المجتمعات، وتشجيع سلوكيات سياسية “مرغوبة”، على حساب غيرها.

ويصف التقرير هذا التوجه بأنه يؤسس لـ”هندسة مدنية ناعمة”، تُدار من خلال الطعام والدواء، بهدف خلق بيئة اجتماعية أكثر استقراراً وقابلية للتطويع بعد انتهاء الحرب.

وفي هذا السياق، يُطرح سؤال جوهري: من يحدد “المواطن الجيد”؟ وهل من الممكن فصل الاحتياج الإنساني عن التوجه السياسي في بيئة محاصرة وممزقة كقطاع غزة؟.

المانحون الجدد والسيطرة على القرار المحلي

تشير الورقة إلى أن خطة المساعدات الجديدة تعتمد على تمويل مختلط بين الحكومة الأميركية ومؤسسات خاصة، من بينها شركات استثمارية ومؤسسات “خيرية” على صلة بمراكز النفوذ السياسي في واشنطن، مما يثير مخاوف من تحوّل المساعدات إلى سوق سياسية تُدار بمنطق الربح والتأثير، لا الاحتياج والاستقلال.

وفي الوقت نفسه، لا تنص الخطة على إشراك الجهات المدنية المحلية – من بلديات ومؤسسات مجتمع مدني فلسطيني – في تصميم آليات التوزيع أو تقييم الحاجات، بل تضعها في موقع المتلقي الخاضع، ما يهدد بتقويض ما تبقى من سيادة فلسطينية محلية في المجال الإغاثي.

كما تتضمن الخطة – بحسب ما ورد في الورقة – شرطًا يتعلق بمدى “استجابة المجتمعات المحلية لمتطلبات الأمن والاستقرار”، وهو ما يمكن أن يُترجم على أرض الواقع إلى شكل من أشكال الانتقاء السياسي، حيث تُكافأ المجتمعات أو العائلات “المتعاونة”، بينما تُستثنى أو تُعاقَب تلك التي توصف بأنها “بيئة حاضنة للتطرف”.

غزة “جديدة” تحت مظلة المساعدات

لا تأتي هذه الخطة في فراغ، بل تتقاطع مع تصورات أوسع طرحتها مراكز دراسات أميركية وإسرائيلية حول “غزة ما بعد حماس”، حيث يجري التفكير في إعادة بناء القطاع وفق شروط جديدة تفرض تحولات عميقة في الخريطة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

وترى الورقة أن المساعدات الأميركية، بصيغتها الجديدة، ليست مجرد جسر إنساني للنجاة، بل أداة لإعادة هندسة الواقع المدني، وإضعاف القوى الاجتماعية المستقلة، وإنتاج نُخب محلية مرتبطة بالممول والراعي الأمني. وتشير إلى أن هذا النهج قد يُسهم في تعميق الانقسامات بدلًا من رأب الصدع، إذا لم يُخضع لمبادئ الشفافية والمساءلة المحلية.

وقد أثارت الخطة الأميركية موجة من التحفظات من قبل منظمات حقوقية دولية، من بينها هيومن رايتس ووتش وأطباء بلا حدود، التي حذرت من أن ربط المساعدات بشروط أمنية يمثّل خرقاً لمبادئ العمل الإنساني، ويهدد حيادية المنظومة الإغاثية.

كما عبّرت منظمات فلسطينية عن قلقها من أن تتحول الخطة إلى وسيلة ضغط لإعادة تشكيل البنية السياسية في غزة بعيداً عن إرادة الناس.

في المقابل، اعتبرت أطراف إسرائيلية وأميركية أن الخطة تمثل “فرصة لإعادة تأهيل غزة”، وتمهيدًا لمرحلة سياسية جديدة تُدار من خارج فصائل المقاومة، وتُبنى على شراكة أمنية إقليمية تحت الرعاية الأميركية.

وتخلص ورقة مركز الدراسات السياسية والتنموية إلى أن خطة المساعدات الأميركية لغزة تندرج ضمن تحول أوسع في فلسفة العمل الإغاثي في مناطق النزاع، من “الاستجابة المحايدة” إلى “الإغاثة المشروطة”، وهو تحول ينذر بتقويض المبادئ الإنسانية الأساسية، ويعيد تعريف العلاقة بين المانح والمجتمع المحلي.

وفي ظل الانهيار المتسارع في غزة، تبدو الحاجة ماسة إلى إعادة بناء منظومة إغاثية عادلة ومستقلة، لا تستبدل القصف بالقيد، ولا الحصار بالمراقبة، بل تضع الإنسان وكرامته في قلب المعادلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى