فتح.. تاريخ طويل من الخيانات والأمجاد الوهمية وتمهيد خيانة الحاضر

منذ انطلاقتها في ستينيات القرن الماضي، قدّمت حركة “فتح” نفسها باعتبارها رأس الحربة في المشروع الوطني الفلسطيني وسط تاريخ طويل من الخيانات والأمجاد الوهمية التي يتغنى بها إعلامها للترويج والتمهيد لخيانة الحاضر.
إذ أن مسار فتح المتعرّج الممتلئ بمحطات التسوية والتنازلات، جعلها في نظر قطاع واسع من الفلسطينيين شريكًا في إجهاض الحلم الوطني أكثر من كونها حاملًا له.
وفي خضم حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة على غزة، برزت مواقف قياداتها الإعلامية لتؤكد هذا التوصيف، وتكشف عن سردية جديدة تمهّد لخيانة أكبر: القبول الضمني بضم الضفة الغربية، وإنهاء أي أفق لقيام دولة فلسطينية مستقلة.
من هو جمال نزال ؟
خرج الناطق باسم فتح جمال نزال مؤخرًا برواية أثارت جدلًا واسعًا، إذ زعم أن حركة فتح انطلقت بعد قيام دولة الاحتلال كردٍّ على احتلالها، وأنها “استرجعت بعض فلسطين”، في تلميح إلى أنها وحدها صاحبة الإنجاز الوطني.
في المقابل ادعى نزال أن حركة حماس لم تنشأ إلا لمناقضة فتح من زاوية “الإسلامية” أي غير الوطنية، وأنها بذلك أضاعت ما استعادته فتح.
الأخطر في كلام نزال ليس فقط تحريف التاريخ، بل الترويج لفكرة أن دولة الاحتلال نفسها رحّبت بظهور حماس وسهّلت لها الطريق لأنها مثّلت نقيضًا لفتح، لا مكملًا لها.
وينسجم مثل هذا الخطاب بوضوح مع الرواية الإسرائيلية التي تحاول تحميل المقاومة المسئولية عن استمرار الحرب في غزة، فيما تُعفي الاحتلال من أصل الجريمة: الحصار، الاستيطان، والإبادة الجماعية.
حركة فتح ويكيبيديا
في ذروة حرب الإبادة على غزة، حيث تُقصف المخيمات والمستشفيات ويُهجّر مئات الآلاف، يظهر نزال ليحمّل المقاومة الفلسطينية – بدل الاحتلال – مسئولية الدمار.
هذه السردية لا يمكن فصلها عن وظيفة سياسية أبعد: إعادة تلميع صورة الاحتلال أمام المجتمع الدولي، وإظهار إسرائيل كطرف “مدافع” ضد حماس لا كقوة استعمارية تُمارس التطهير العرقي منذ أكثر من سبعة عقود.
بهذا الخطاب، تتحول فتح إلى أداة ضمنية لتبرير العدوان، بدل أن تكون صوتًا للشعب المذبوح. وهي مفارقة تعكس التحول الجذري في عقيدة الحركة: من بندقية التحرير إلى لغة التنسيق الأمني مع الاحتلال.
تجاهل واقع الضفة الغربية
اللافت أن نزال لم يأتِ على ذكر الضفة الغربية التي تعيش تحت سيطرة فعلية للاحتلال رغم وجود السلطة الفلسطينية. فبينما يروّج لسردية أن حماس “سببت الكارثة” في غزة، يتجاهل ما يجري يوميًا في الضفة: عربدة المستوطنين، اقتحامات المدن والقرى، القتل والاعتقالات بالجملة، ومشاريع الضم الزاحف للأراضي.
هذا الصمت ليس سهوًا، بل مقصودًا؛ لأنه يعكس عجز فتح والسلطة – أو تواطؤهما – أمام سياسات الاحتلال.
فالضفة، التي يفترض أن تكون نموذجًا لمشروع “الدولة” الذي تبشّر به فتح، تحوّلت إلى نموذج للفشل والانهيار، حيث لا سيادة ولا أمن ولا اقتصاد مستقل، بل إدارة مدنية تحت سقف الاحتلال.
كما أن رواية نزال، وغيرها من تصريحات قيادات فتح، ليست معزولة عن سياق تاريخي طويل من التنازلات. فمنذ اتفاق أوسلو عام 1993، تنازلت الحركة عن 78% من أرض فلسطين التاريخية مقابل وعود بدولة لم ترَ النور. ومع كل حكومة إسرائيلية جديدة، تآكلت تلك الوعود أكثر، فيما واصلت السلطة التمسك بالمسار ذاته.
اليوم، ومع غياب أفق سياسي، يبدو أن فتح تمهّد للمرحلة التالية: قبول الضم الفعلي للضفة الغربية عبر الصمت أو التبرير، وتصفية القضية الفلسطينية عبر تحميل المقاومة مسئولية ما تبقى من أرض وحقوق. إنها “الخيانة الكبرى” التي يتوقع كثيرون أن تكرّس نهاية المشروع الوطني بصيغته التقليدية.
فتح وإرث الأمجاد الوهمية
الإشكالية الأعمق أن إعلام فتح لا يزال يتغنى بأمجاد وهمية من الماضي، يعيد إنتاج روايات عن “الانتصارات” المزعومة ليبرر إخفاقات الحاضر.
ويرى مراقبون أن هذا التمجيد لا يخدم إلا في تلميع صورة قيادة فقدت شرعيتها الشعبية، ويُستخدم لتغطية العجز عن مواجهة الاحتلال أو تمثيل الشعب الفلسطيني تمثيلًا حقيقيًا.
وفي المقابل، تُشيطن المقاومة الفلسطينية، خصوصًا حماس، وتُقدَّم كعبء تاريخي أو مؤامرة إسرائيلية، بينما يعرف الجميع أن الاحتلال لا يفرّق بين فتحاوي أو حمساوي في استهدافه للفلسطينيين.
وعليه فإن تصريحات جمال نزال ليست زلة لسان، بل جزء من خطاب سياسي يهيئ الأرضية لمشروع أكبر: إنهاء القضية الفلسطينية كملف سياسي عبر تحميل الفلسطينيين أنفسهم – لا الاحتلال – مسئولية المأساة.
فحركة فتح، التي بدأت كحركة تحرر وطني، تبدو اليوم في موقع من يسهّل على دولة الاحتلال تمرير مخططاتها. فالتركيز على اتهام حماس، مع تجاهل ما يجري في الضفة، يفضح أن المسار الحقيقي ليس حماية المشروع الوطني، بل التعايش مع ضياعه.