تحليلات واراء

السلطة الفلسطينية بين دعاية “التيك توك” وفداحة الواقع

تبرز ظاهرة جديدة باتت تهيمن على أسلوب عمل السلطة الفلسطينية تقوم على اللجوء إلى وسائل التواصل الاجتماعي، ولا سيما تطبيق “التيك توك”، لتلميع صورتها وتقديم نفسها ككيان سياسي مستقر ورئيسي في المشهد الفلسطيني.

وتكثفت هذه الجهود عبر مقاطع فيديو قصيرة تروّج لمحمود عباس وكبار مساعديه، أو تستعرض “إنجازات” الأجهزة الأمنية، في محاولة لإظهار السلطة وكأنها دولة متماسكة ذات سيادة.

غير أن هذه الدعاية الرقمية، التي تستهدف بالأساس الأجيال الشابة، تبدو في جوهرها مفصولة تماماً عن الواقع المرير الذي تعيشه السلطة على الأرض.

بين صورة الدولة ووضع “السلطة”

تصرّ الأخبار الرسمية الصادرة عن مؤسسات السلطة ووكالة الأنباء الفلسطينية على وصف محمود عباس بـ”رئيس دولة فلسطين”، في حين أن الحقيقة أكثر مرارة: الرجل لا يملك حرية التنقل داخل مناطق الضفة الغربية دون إذن الاحتلال الإسرائيلي، ولا يسيطر على القرارات السياسية أو الأمنية بعيداً عن قيود اتفاق أوسلو.

يبرز هذا التناقض بين الخطاب الدعائي والواقع اليومي جلياً حينما تقارن صورة “الرئيس صاحب الدولة” بما يحدث على الأرض، حيث تُعامل السلطة كجهاز إداري تابع، وتُذكَّر باستمرار بمحدودية صلاحياتها.

وبحسب مراقبين فإن اللجوء إلى “تيك توك” بهذا الشكل المبالغ فيه يعكس مأزقاً حقيقياً تعانيه القيادة الفلسطينية الحالية.

فبدلاً من تحقيق إنجازات ملموسة على صعيد إنهاء الاحتلال أو تعزيز صمود الشعب، يتم التركيز على إنتاج محتوى مرئي قصير يخاطب العاطفة ويعتمد على الموسيقى والمؤثرات البصرية.

مقاطع يظهر فيها عباس وهو يستقبل وفوداً، أو مساعدوه وهم يلقون تصريحات رنانة، تُقدَّم وكأنها مشاهد من “حكم دولة طبيعية”.

لكن هذه الدعاية الرقمية تفتقر إلى المصداقية، لأن الجماهير التي تتابعها تعايش يومياً الانتهاكات الإسرائيلية، والحواجز العسكرية، وأزمات الرواتب.

السلطة الفلسطينية ويكيبيديا

في المقابل، تبدو الأوضاع الداخلية للسلطة على حافة الانهيار. إسرائيل تتحكم في الموارد المالية عبر اقتطاع أموال الضرائب (المقاصة) التي تشكل المصدر الأساسي لرواتب موظفي السلطة، مما يضعها دوماً في أزمة مالية خانقة.

أضف إلى ذلك أن الاحتلال يعمّق من سيطرته على الضفة الغربية عبر التوسع الاستيطاني ومخططات الضم، بينما تُعامل الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة كأداة لضبط الفلسطينيين بدلاً من حمايتهم من اعتداءات المستوطنين وجيش الاحتلال.

والمفارقة الأكثر وضوحاً هي أن الدعاية عبر “تيك توك” تعكس محاولة لتسويق صورة مناقضة تماماً لما يراه الفلسطينيون في حياتهم اليومية.

فمن جهة، يُظهر المحتوى عباس وكأنه زعيم يحكم دولة كاملة السيادة، بينما الواقع يكشف أنه محاصر ضمن مناطق محدودة النفوذ، وتخضع قراراته لمعادلات إقليمية ودولية أكثر من استجابتها لاحتياجات الشارع الفلسطيني.

ومن جهة أخرى، يتم تقديم الأجهزة الأمنية كركيزة للاستقرار، في حين يُنظر إليها شعبياً كجهاز قمعي يتماهى مع الاحتلال أكثر مما يواجهه.

حرب الإبادة في غزة كاشفة للزيف

جاءت حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة لتفضح أكثر هشاشة الخطاب الدعائي للسلطة.

ففي الوقت الذي يتعرض فيه القطاع لدمار شامل، وتتصاعد جرائم الحرب، بدت السلطة عاجزة عن أي فعل مؤثر سوى إصدار بيانات، بينما تواصل إنتاج محتوى دعائي على “تيك توك” لا يلامس المأساة الإنسانية.

والمفارقة أن هذه الحرب أعادت إلى الواجهة سؤال مشروعية السلطة نفسها، بعدما تكرس دورها كإدارة بيروقراطية دون قدرة حقيقية على حماية الفلسطينيين أو تمثيل قضيتهم في لحظة تاريخية فاصلة.

دعاية بلا جمهور

الأدهى أن هذه الدعاية الرقمية لم تعد تقنع الجمهور الفلسطيني الذي يعيش حالة من السخط المتصاعد تجاه القيادة الحالية.

فالمواطن الذي يعاني من الفقر والبطالة والقيود الإسرائيلية يجد صعوبة في تقبّل مقاطع دعائية تظهر “رئيس دولة” بينما هو عاجز عن دفع الرواتب أو مواجهة هجمة استيطانية.

بل إن بعض تلك الفيديوهات باتت مادة للسخرية والتعليقات اللاذعة على المنصات نفسها، ما يحول الدعاية إلى أداة عكسية تزيد من فقدان الثقة.

وبالمحصلة فإن اعتماد السلطة الفلسطينية على الدعاية عبر “تيك توك” يعكس أزمة شرعية أعمق من مجرد محاولة تجميل صورتها. فهي تكشف الانفصال بين القيادة والجمهور، وبين الخطاب الرسمي والواقع الميداني، وبين صورة “الدولة” والدور الفعلي الذي لا يتجاوز حدود سلطة محلية ضعيفة تحت الهيمنة الإسرائيلية.

وفي ظل الاقتطاعات المالية، والاستيطان المتسارع، وحرب الإبادة في غزة، تبدو تلك المقاطع الدعائية محاولة يائسة لتسويق سلطة آيلة للسقوط أكثر من كونها كياناً قادراً على تمثيل طموحات الشعب الفلسطيني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى