معالجات اخبارية

السندات الإسرائيلية “شريان حرب” تموّله مصارف وشركات تأمين غربية

كشف تحقيقٌ استقصائي أن أدوات “الدين السيادية الإسرائيلية، ولا سيما السندات الحكومية، أصبحت منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 الذراعَ المالية الأساسية لتمويل العمليات العسكرية على غزة، مع دخول بنوك كبرى وشركات تأمين ومديري أصول أوروبيين وأميركيين كمشترين ومسوّقين ومديرين للإصدارات.

وأظهر التحقيق أن هذا التموضع المالي يضع تلك المؤسسات أمام شبهة خرق مبادئ منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) بشأن “العناية الواجبة في حقوق الإنسان” ويجعلها عرضة لاتهامات بالتواطؤ في جرائم حرب – وفقاً لخبراء وتقارير متخصصة.

وقال تحقيق لمنصة “فولو ذَ مَني/ Follow the Money” إن السندات الحكومية الإسرائيلية باتت “حيوية” لتمويل الحرب، وأن مؤسسات مالية أوروبية كبرى دعمتها عبر الاكتتاب أو الإدارة أو الشراء.

ويتصدر المشهد اسم شركة التأمين الألمانية “أليانز” من خلال ذراعها لإدارة الأصول في الولايات المتحدة “بيمكو/PIMCO”، بإجمالي حيازة قُدِّر بنحو 960 مليون دولار من السندات الحكومية الإسرائيلية، بحسب تجميعات منشورة استندت إلى قواعد بيانات وتقارير أممية.

وتُظهر أعمال بحث مشتركة لمنظمات PAX وBankTrack وProfundo أن سبعة مصارف استثمارية كبرى — من بينها غولدمان ساكس، بنك أوف أميركا، دويتشه بنك، بي إن بي باريبا، وباركليز — أدّت دوراً محورياً في إدارة وإصدار سندات سيادية إسرائيلية بين 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ويناير/كانون الثاني 2025، بقيمة إجمالية بلغت 19.4 مليار دولار.

وتوثق هذه الخلاصة بدقّة أسماء الجهات وتواريخ الإصدارات، وتؤكد أن القطاع المالي الغربي “اصطفّ” لتغطية احتياجات تمويل استثنائية مرتبطة بالحرب.

نقل مسار الموافقات داخل أوروبا

بعد “بريكست”، أصبحت أيرلندا المنفذ التنظيمي الرئيسي داخل الاتحاد الأوروبي لاعتماد نشرات السندات الإسرائيلية المتداولة في أسواق الاتحاد.

ومع تصاعد الغضب البرلماني والشعبي في دبلن — بدعوى أن تلك الموافقات تُسهِّل تمويل انتهاكات جسيمة — نُقِل الملف في سبتمبر/أيلول 2025 إلى لوكسمبورغ، حيث أعلنت الجهات التنظيمية هناك اعتماد نشرة جديدة، بينما أكد البنك المركزي الأيرلندي انتهاء صلاحية نشرة 2024 وعدم إمكان استخدامها مجدداً.

وأكد التحقيق أن هذا التحول لم يُنهِ الجدل، بل نقله إلى لوكسمبورغ وسط تحذيرات نواب من أن منح التراخيص قد يعني تواطؤاً في جرائم حرب.

الأمم المتحدة: من “اقتصاد الاحتلال” إلى “اقتصاد الإبادة”

في تقرير قُدِّم إلى مجلس حقوق الإنسان (الجلسة 59)، خلصت المقررة الخاصة للأمم المتحدة فرانشيسكا ألبانيزي إلى أنّ السندات الحكومية — باعتبارها المصدر الرئيس لتمويل الموازنة — “لعبت دوراً حاسماً” في تمويل الهجوم المستمر على غزة.

ويربط هذا التوصيف مباشرةً بين أدوات الدين العامة والنشاط العسكري، ويُحاجِج بأن السماح بتداول تلك السندات في أسواق الاتحاد الأوروبي يرقى إلى “تواطؤ مالي” في جرائم حرب وإبادة جماعية.

,تعكس البيانات المالية تفاقماً في عجز الموازنة وارتفاعاً حاداً في الاحتياجات التمويلية. أفادت تقارير إخبارية واقتصادية بأن كلفة الحرب دفعت الدين العام والاقتراض إلى مستويات مرتفعة، مع تقديرات لبنك إسرائيل بوصول أعباء الحرب إلى 250 مليار شيكل بحلول نهاية 2025، إلى جانب إصدارات دولية بأسعار فائدة تفوق نظائرها الأميركية بهوامش مرتفعة.

ويجعل هذا الواقع الاعتماد على السندات أكثر إلحاحاً — ويزيد تبعية الحكومة لمديري الإصدار الأجانب ولشهية المستثمرين العالميين.

أين تقف مبادئ الـOECD؟

تُلزم “المبادئ التوجيهية للمؤسسات متعددة الجنسيات” الشركاتَ بإجراء “عناية واجبة” قائمة على المخاطر لدرء أو تقليل الآثار السلبية على حقوق الإنسان — بما يشمل علاقاتها التجارية والاستثمارية — وبالانخراط “المُجدي” مع الأطراف المتضررة، والإفصاح عن كيفية إدارة هذه المخاطر.

وتؤكد “إرشادات العناية الواجبة” أن المستثمرين، وليس الشركات المشغِّلة فقط، مطالبون بتقييم آثار التمويل على حقوق الإنسان واتخاذ خطوات لمنع أو وقف المساهمة في الانتهاكات.

وعند إسقاط هذه المعايير على حالة السندات الإسرائيلية، تبدو الفجوة واسعة: لا مؤشرات على قيام المصارف الكبرى أو شركات التأمين بعمليات تقييم جدي للمخاطر الحقوقية قبل الاكتتاب أو التسويق، ولا على حوار ذي معنى مع متضررين مستقلين، رغم وفرة الشواهد على سقوط أعداد هائلة من المدنيين وتكرار اتهامات من منظمات حقوقية وهيئات أممية بارتكاب جرائم حرب.

وخلصت تقارير بحثية متخصصة إلى أن المؤسسات التي واصلت الاكتتاب أو التداول بينما تتكشّف تلك الانتهاكات تعرض نفسها لشبهة “المساهمة” أو “التواطؤ” — بحسب مصطلحات القانون الدولي العرفي.

وأظهر التحقيق أن جزءً من الطلب على السندات يأتي عبر محافظ تقاعد وتأمين تُسوَّق على أنها “مستدامة” أو “أخلاقية”. عملياً، يعني ذلك أن ملايين الأوروبيين قد يموّلون آلة الحرب عبر اقتطاعاتهم الادّخارية بدون علم مباشر.

وتحذّر تقارير المجتمع المدني من “تضليل أخضر” (Greenwashing) حين تُبقِي المؤسسات وعود “الاستثمار المسؤول” في واجهتها التسويقية، بينما ترفض مواءمة سياساتها الائتمانية والاستثمارية مع المعايير الحقوقية للمبادئ الأممية والـOECD.

دفاع المؤسسات… وحدود القانون

تتمسّك الجهات التنظيمية (مثل البنك المركزي الأيرلندي) بأن دورها يقتصر على التحقق من استيفاء نشرات الإصدار متطلبات الشفافية الشكلية وفق لائحة النشرات الأوروبية، لا على تقييم استخدام حصيلة الإصدار.

لكن تحديثات 2023 لمبادئ الـOECD — والتي تعتمدها حكومات الاتحاد من خلال نقاط اتصال وطنية — ترفع سقف التوقعات من المؤسسات المالية الخاصة: ليس الاكتفاء بالامتثال اللائحي كافياً حين تكون هناك مخاطر جسيمة على حقوق الإنسان مرتبطة بمنتج مالي محدَّد.

ولا تُعدّ مبادئ الـOECD ملزِمة قضائياً بذاتها، لكنها توفر مساراً للمساءلة شبه القضائية عبر “نقاط الاتصال الوطنية” (NCPs) التي تستطيع تلقّي “حالات محددة” ضد شركات بعينها وإصدار توصيات علنية قد تترتب عليها سمعةٌ سيئة، وضغوط من المستثمرين والجهات التنظيمية، بل وربما تقاضٍ مدني في أنظمة قضائية تُدمج معايير العناية الواجبة في تشريعات ملزمة (كالتوجيه الأوروبي المرتقب بشأن العناية الواجبة في الاستدامة CSDDD).

وبالتالي، يتجاوز الخطر “سُمعة” الشركات إلى إمكانية انكشافها لمطالبات بالتعويض أو قيود على التعامل معها من صناديق سيادية وصناديق معاشات عامة.

وعليه تكشف الأدلة عن منظومة تمويل متكاملة — إصدارات، إدارة، اكتتاب، وتداول — وفّرت لإسرائيل عشرات المليارات سريعاً لتغطية كلفة الحرب، مع أدوار محورية لمصارف استثمارية ومديري أصول غربيين.

وقد اعتبرت المقررة الخاصة للأمم المتحدة، إضافة إلى منظمات بحثية أوروبية، أن السندات لعبت دوراً “حاسماً” في تمويل الهجوم على غزة، ما يرفع سقف مسؤولية الوسطاء الماليين الذين يسوّقونها أو يكتتبون بها.

كما أن نقل الإشراف من أيرلندا إلى لوكسمبورغ لا يُنهي الإشكال؛ إذ تبقى معايير العناية الواجبة في الـOECD — لا متطلبات نشرات الإصدار الشكلية — هي الميزان الحقيقي لادّعاءات “الاستثمار المسؤول”.

واستمرار هذا التموضع رغم تراكم الأدلة على الانتهاكات قد يعرّض المؤسسات لملاحقات في مسارات الـNCPs، ولانسحابات مستثمرين مؤسسيين، ولارتفاع كلفة رأس المال بسبب علاوات المخاطر البيئية والاجتماعية والحوكمة (ESG).

وبالإجمال فإن شراء وتسويق وإدارة السندات الحكومية الإسرائيلية — في ظل حربٍ موثّقة الانتهاكات على نطاق واسع — لا يعبّر فقط عن خيار استثماري “محايد”، بل عن اصطفاف مالي ذي أثر مباشر على استمرار الحرب.

وبالقياس إلى معايير الـOECD وتحديثاتها لعام 2023، فإن مؤسسات مالية أوروبية وأميركية تواجه اليوم سؤال المساءلة: إمّا مواءمة سياساتها مع واجبات العناية الواجبة ووقف التمويل ذو المخاطر الحقوقية الجسيمة، أو تحمّل تبعات قانونية وأخلاقية وسمعية تتسع دوائرها يوماً بعد يوم.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى