إسرائيل بعد عامين من حرب غزة: من “وعد النصر الكامل” إلى العزلة والانهيار المعنوي

بعد مرور عامين على اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، يبدو أن الصورة التي يحاول بنيامين نتنياهو تسويقها داخليًا عن “انتصار عسكري شامل” تنهار تحت ثقل الوقائع السياسية والاقتصادية والدبلوماسية التي تحاصر تل أبيب أكثر من أي وقت مضى.
فبينما يصرّ رئيس الوزراء على أن “إسرائيل تفوز بالحرب”، تظهر المؤشرات على العكس تمامًا: تراجع داخلي، عزلة خارجية، وانهيار في الصورة الأخلاقية للدولة التي طالما ادّعت أنها “واحة الديمقراطية” في الشرق الأوسط.
من “إسبرطة العظمى” إلى الدولة المحاصرة
في خطاب له مؤخرا، دعا نتنياهو إلى تحويل دولة الاحتلال إلى “إسبرطة عظمى” — دولة عسكرية مكتفية ذاتيًا، قادرة على الدفاع عن نفسها دون الاعتماد على الآخرين.
لكن هذا التشبيه لم يمرّ مرور الكرام. فحتى داخل دولة الاحتلال، اعتُبر توصيفه علامة على دولةٍ تعيش على السيف وتخشى السلم أكثر مما تخشى الحرب.
وقد هاجم رجال الأعمال والضباط السابقون والمعارضون السياسيون نتنياهو بشدة، معتبرين أن “إسبرطة الحديثة” التي يتحدث عنها لم تعد تملك حتى حلفاءها التاريخيين.
فالواقع يؤكد أن دولة الاحتلال اليوم، بعد عامين من القتال، ليست أقوى، بل أضعف: اقتصادها يعاني من عزلة متزايدة، مكانتها الدولية تدهورت، وصورتها أمام الرأي العام العالمي تحوّلت من “دولة محاربة للإرهاب” إلى “قوة استعمارية تمارس الإبادة الجماعية”.
ويعترف الخبراء الإسرائيليون أنفسهم بذلك. فالمفاوض السابق نمرود نوفيك قالها بوضوح: “لقد خسرنا الحرب في السابع من أكتوبر.”
فهجوم المقاومة الفلسطينية المفاجئ الذي شلّ مؤسسات الأمن والاستخبارات الإسرائيلية كان كاشفًا لمدى الوهم الذي بُنيت عليه عقيدة “الردع المطلق”. ومنذ ذلك اليوم، فشلت الحكومة في تحقيق أهدافها المعلنة: لم تُنهِ المقاومة، لم تُحرر جميع الأسرى، ولم تُعِد الأمن كاملا إلى المستوطنات الجنوبية.
ورغم المجازر غير المسبوقة — أكثر من 65 ألف شهيد فلسطيني، غالبيتهم من المدنيين، وتدمير شبه كامل للبنية التحتية في غزة — لم يتحقق أي “نصر سياسي أو عسكري” يُذكر.
بل العكس: المقاومة رغم الخسائر، لا تزال قائمة سياسياً، وتتمتع بدعم شعبي أكبر في الشارع الفلسطيني، بينما دولة الاحتلال تُواجه اتهامات بالإبادة في محكمة العدل الدولية.
“تسونامي دبلوماسي” يضرب تل أبيب
المفارقة الكبرى أن دولة الاحتلال التي كانت تفتخر بقدرتها على “عزل الفلسطينيين دبلوماسياً”، أصبحت هي المعزولة.
فالمصطلح الجديد الذي يُتداول في الأوساط الإسرائيلية — “التسونامي الدبلوماسي” — لم يعد مجازًا.
فقد اعترفت دول أوروبية كفرنسا، وإسبانيا، والبرتغال، ودول في أميركا اللاتينية، رسميًا بدولة فلسطين. كما فرضت ألمانيا وإسبانيا قيودًا على تصدير الأسلحة إلى تل أبيب، وألغت مدريد عقودًا تسليحية كبيرة، في سابقة لم تحدث منذ عقود.
الأهم، أن استطلاعات الرأي تظهر تحولًا جذريًا في صورة دولة الاحتلال لدى الرأي العام الغربي.
ففي الولايات المتحدة، تراجع الدعم الشعبي لإسرائيل بنحو 13 نقطة مئوية خلال عام واحد فقط، وفقًا لاستطلاع نيويورك تايمز.
أما في أوروبا، فالمقاطعات الأكاديمية والثقافية والاقتصادية ضد تل أبيب تتزايد بوتيرة متسارعة، حتى داخل قطاعات كانت تُعتبر “محايدة” تقليديًا.
انهيار اقتصادي إسرائيلي يلوح في الأفق
اقتصاديًا، رغم ما تصفه الحكومة الإسرائيلية بأنه “ثبات غير مسبوق”، فإن الواقع أكثر هشاشة.
تشير البيانات الأخيرة إلى انخفاضٍ حادٍ في الصادرات الإسرائيلية إلى أوروبا، أكبر شريك تجاري للدولة العبرية، إضافة إلى ارتفاع كلفة التأمين والاستثمار بسبب تصاعد المخاطر السياسية.
ويقرّ الخبير الاقتصادي الإسرائيلي ديفيد روزنبرغ بأن “الاقتصاد الإسرائيلي بدأ يشعر بتأثير العقوبات والمقاطعة، وأن مرحلة الازدهار الاستثنائي انتهت”.
العملة المحلية، الشيكل، تراجعت أمام الدولار واليورو، والاستثمارات الأجنبية المباشرة انخفضت بنسبةٍ تقارب 40% مقارنة بعام 2022.
كما أن ثقة المستثمرين تتآكل بسبب المخاطر القانونية والدبلوماسية التي تهدد الشركات المتعاملة مع دولة الاحتلال، خاصة بعد تزايد الحديث في الاتحاد الأوروبي عن إدراج مستوطنات الضفة الغربية ضمن قوائم العقوبات.
جيش بلا هدف وحكومة بلا بوصلة
على الأرض، تُظهر التقارير الميدانية أن الجيش الإسرائيلي فقد ما تبقى من “وضوح المهمة”. فبعد عامين من القتال، لم يعد الجيش يمتلك هدفًا محددًا سوى “الاستمرار في القتال”.
وتشير تسريبات من داخل المؤسسة العسكرية إلى تذمّر واضح من استمرار العمليات دون استراتيجية خروج، وأن بعض القيادات تأمل أن “تُنهي الدبلوماسية الحرب بدل المدافع”.
ويدرك الجيش نفسه أن “إعادة احتلال غزة” ستكون فخًا استراتيجيًا. ومع كل جولة جديدة من القصف، تتزايد عزلة دولة الاحتلال، ويتراجع تفويضها الدولي، ويزداد الانقسام الداخلي حول جدوى استمرار الحرب.
الانعكاسات الداخلية: إسرائيل في مواجهة نفسها
في الداخل، يعيش المجتمع الإسرائيلي واحدة من أعمق أزماته منذ تأسيس الدولة. التظاهرات ضد نتنياهو لا تهدأ، وحركات أهالي الأسرى الإسرائيليين تُطالب باتفاق عاجل لتبادلهم، حتى لو كان ذلك يعني وقف الحرب.
وتتعمق الانقسامات السياسية بين معسكر اليمين المتطرف الذي يطالب بمواصلة الحرب حتى “النصر الكامل”، ومعسكرٍ أوسع يرى أن استمرارها يُدمّر دولة الاحتلال أخلاقيًا وسياسيًا.
ويعتقد مراقبون أن الانتخابات المقبلة — المتوقعة خلال عام على الأكثر — ستكون بمثابة استفتاء شعبي على فشل نتنياهو في إدارة الحرب. فبينما يحاول الأخير التمسك بالسلطة تحت شعار “الأمن أولاً”، يرى خصومه أنه “رجل فقد البوصلة” وأنه يستخدم الحرب درعًا سياسيًا لحماية نفسه من المحاكمات والفساد.
وبعد عامين من الحرب، لم تعد معركة غزة مجرد صراع عسكري، بل تحوّلت إلى اختبارٍ شامل لقدرة دولة الاحتلال على البقاء كدولة “مقبولة دوليًا”.
فالعالم يرى الآن أن تل أبيب لم تعد ضحية، بل أصبحت هي المعتدي؛ وأن “الجيش الأكثر أخلاقية في العالم” غارق في دماء عشرات الآلاف من المدنيين.
لقد وعد نتنياهو الإسرائيليين بـ”نصر بسيط وشامل”، لكنه منحهم واقعًا أكثر قسوة: دولةً محاصرة، منبوذة، غارقة في أزماتها، وتعيش على أنقاض أوهام الردع والتفوّق.
وفي النهاية، ربما تكون الحقيقة الأكثر وضوحًا هي أن دولة الاحتلال لم تخسر الحرب في غزة فقط — بل بدأت تخسر نفسها.