تحليلات واراء

من سلطة وطنية إلى أداة عقاب: كيف انقلبت فتح على الشهداء والأسرى؟

في كل مرة تُقدِم فيها السلطة الفلسطينية على خطوة جديدة تمسّ حقوق الشهداء والأسرى والجرحى، يتأكد أن ما يجري يندرج في إطار مسار سياسي وأمني متكامل، جرى بناؤه بعناية على مدى سنوات، هدفه تفكيك أحد أعمدة الوعي الوطني الفلسطيني ومن دفعوا ثمن المواجهة مع الاحتلال بأجسادهم وأعمارهم.

فقرار قطع أو تقليص رواتب الشهداء والأسرى والجرحى لا يمكن عزله عن هذا السياق، باعتباره ليس “إجراءً ماليًا” ولا “إصلاحًا إداريًا” كما تحاول السلطة تسويقه، بل امتداد مباشر لسلسلة طويلة من السياسات التي ارتكبتها بحق هذه الفئات، وسياسات يمكن توصيفها بوضوح بأنها جرائم وطنية مكتملة الأركان.

البداية كانت حين قررت السلطة، بقرار سياسي فجّ، حلّ وزارة شؤون الأسرى، وتحويلها إلى “هيئة” بلا وزن سياسي ولا سيادي، في رسالة واضحة مفادها أن ملف الأسرى لم يعد أولوية وطنية، بل عبئًا يجب تخفيفه لإرضاء الاحتلال والمانحين.

ولم يكن ذلك إجراءً شكليًا، بل خطوة رمزية عميقة الدلالة، نزعت عن الأسرى مكانتهم كعنوان مركزي للنضال، وحوّلت قضيتهم إلى ملف إداري بارد.

اعتقال السلطة الأسرى المحررين

ثم تطور المسار إلى ما هو أخطر: اعتقال الأسرى المحررين أنفسهم.

فالسلطة التي تدّعي تمثيل الشعب، اقتحمت بيوت من خرجوا من سجون الاحتلال، واعتقلت بعضهم، وقمعت حفلات استقبالهم، ليس لأنهم ارتكبوا جرمًا، بل لأنهم رفعوا رايات لا ترضي “التوازنات الأمنية”، أو لأن مشهد الفرح الشعبي بأسرى محررين يُحرج خطاب “الالتزام بالتهدئة”.

وهنا يتساءل مراقبون “أي انحطاط سياسي هذا الذي يحوّل الفرح بالحرية إلى تهمة؟”.

ولم يتوقف الأمر عند الأحياء. فقد شهدنا، غير مرة، اقتحام جنازات الشهداء، في مشاهد صادمة كسرت ما تبقى من خطوط حمراء.

جنازة الشهيد عبد الفتاح خروشة لم تكن حادثة فردية، بل نموذجًا صارخًا: أجهزة أمنية تهاجم مشيّعي شهيد، تلقي الجثمان على الأرض، وتتعامل مع لحظة وداع أخيرة كأنها خطر أمني. أي سلطة هذه التي تخشى جنازة شهيد أكثر مما تخشى رصاص الاحتلال؟

أما قطع رواتب الشهداء والأسرى والجرحى، فهو ذروة هذا المسار، وأقسى تجلياته. هذه الرواتب ليست “مكرمة” ولا “منحة”، بل حق اجتماعي وأخلاقي، يعكس اعتراف المجتمع بتضحيات هؤلاء.

وحين تُقطع الرواتب بحجج سياسية وذرائع واهية، يصبح الأمر عقابًا جماعيًا من سلطة يفترض أنها وطنية، لا تختلف في جوهره عن سياسة الاحتلال في التجويع والابتزاز.

السلطة الفلسطينية ويكيبيديا

الأخطر أن الاستهداف لم يكن ماليًا فقط. فقد مارست أجهزة السلطة، وخصوصًا جهاز المخابرات، تضييقًا اجتماعيًا ممنهجًا على عائلات الشهداء.

تعميمات غير مكتوبة على مكاتب العقارات بعدم تأجير بيوت لعائلات منفذي العمليات، ضغوط خفية لعزلهم اجتماعيًا، ورسائل واضحة: أنتم عبء، وأنتم مشكلة. هكذا تُدار الأمور، لا بقانون، بل بأدوات قمع ناعمة، لا تقل قسوة عن العصا الغليظة.

كل ذلك يجري فيما قيادات السلطة، وعلى رأسها حركة فتح، لا تتوقف عن المزايدة بالوطنية. خطاب خشبي عن “المشروع الوطني”، واتهامات جاهزة لكل من ينتقد هذا المسار بأنه “خادم لأجندات خارجية”.

والمفارقة الفجّة أن من يقطع راتب أسير، ويقمع جنازة شهيد، ويلاحق عائلة جريح، هو نفسه من ينصّب نفسه حارسًا للوطنية، وكأن الوطنية باتت امتيازًا بيروقراطيًا تمنحه الأجهزة وتسحبه متى شاءت.

ويرى مراقبون أن فتح، بوضعها الحالي، لم تعد حركة تحرر كما وُلدت، بل تحولت، في نظر شريحة واسعة من الفلسطينيين، إلى طعنة في خاصرة النضال. طعنة مغلّفة بخطاب رسمي، ومبررة بلغة “الواقعية السياسية”، لكنها في الجوهر طعنة لمن صمدوا في الزنازين، ولمن سقطوا على الحواجز، ولمن عادوا إلى بيوتهم على كراسٍ متحركة.

وما يجري اليوم ليس مجرد خلاف سياسي، بل صراع على تعريف الوطن نفسه: هل هو وطن الشهداء والأسرى والجرحى، أم وطن التنسيق الأمني والرواتب المشروطة؟ ومع كل قرار جديد ضد هذه الفئات، يتضح أن السلطة اختارت موقعها بوضوح، حتى لو كلّفها ذلك ما تبقى من شرعيتها الشعبية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى