تحليلات واراء

الهندسة الإسرائيلية- الأمريكية لمساعدات غزة بين الإبادة الجماعية والتوظيف الأمني

بقلم د. مروان شحادة

منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أكتوبر 2023، تصاعدت الانتقادات الدولية الموجهة إلى إسرائيل بسبب الجرائم الممنهجة ضد المدنيين، والتي باتت تُوصَف بشكل متزايد في الأوساط القانونية والحقوقية الدولية بأنها ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية وجرائم الحرب
في محاولة لاحتواء هذا التوصيف الخطير، وإعادة تشكيل الرأي العام العالمي، برزت خطة أمريكية-إسرائيلية مشتركة لتنسيق وتوجيه المساعدات الإنسانية إلى غزة، بزعم التخفيف من الأزمة الإنسانية، في وقت تستمر فيه العمليات العسكرية، وسياسة التجويع، والقتل، والاستهداف الممنهج للبنية التحتية المدنية.

أهداف الخطة:
تكشف القراءة المعمقة للخطة الأمريكية-الإسرائيلية عن كونها أداة سياسية وأمنية، أكثر من كونها عملية إنسانية، تهدف إلى تحقيق الأهداف التالية:
1. التهرب من الاتهام بالإبادة الجماعية من خلال خلق صورة مزيفة عن «الرحمة العسكرية» و«الجهد الإنساني»، بما يخدم دعاية الاحتلال في المحافل الأممية.
2. فرض هندسة ديمغرافية ناعمة في قطاع غزة عبر دفع السكان تدريجيًا إلى مغادرة مناطق الشمال والوسط، تحت ضغط الجوع وانعدام الأمن، باتجاه مناطق محددة يجري فيها ضبط الحركة والفكر، بمعنى آخر هو تهجير قصري، يهدف إلى خروج سكان غزة في مرحلة لاحقة إلى بلدان أخرى، كما صرح الرئيس الأمريكي بوقاحة عن ذلك عدة مرات.
3.الاستهداف بالاعتقال والقتل الممنهج للمواطنين بذرائع أنهم ناشطين ومؤيدين للمقاومة من خلال دمج تقنيات التعرف البيومتري (الوجه، الصوت) في مواقع توزيع المساعدات، ما يحوّل نقاط الإغاثة إلى مراكز جمع معلومات واستخبارات.

المواقع والتقنيات:
الخطة تقضي بتحديد “ممرات إنسانية” ومواقع توزيع مساعدات تم اختيارها بعناية لأسباب عسكرية وأمنية بحتة، وهي مواقع عسكرية تقع تحت سيطرة قوات الاحتلال، حيث يجري فيها:
نصب أنظمة مراقبة متقدمة للتعرف على الوجوه والأصوات، تديرها شركات تكنولوجية إسرائيلية بالشراكة مع أطراف دولية تدعي الحياد.
إخضاع السكان لفحوص أمنية دقيقة قبل حصولهم على المواد الإغاثية، الأمر الذي ينتهك كرامة الإنسان، ويحول الحاجة الإنسانية إلى أداة ابتزاز وتجنيد أمني للحصول على معلومات حول المقاومة والمقاومين.

مؤسسة “غزة للإغاثة”: واجهة إنسانية أم ذراع استخباراتية؟

من بين الأدوات المستخدمة في تنفيذ هذه الخطة، برزت مؤسسة “غزة الإنسانية” (Gaza Humanitarian Foundation)، التي تم تسجيلها في سويسرا، وتحمل صفة منظمة إنسانية دولية، إلا أن التحقيقات الصحفية والمعلومات الميدانية تشير إلى كونها تعمل بصفة أمنية واستخباراتية موجهة، وتتلقى دعمًا مباشرًا من أطراف مرتبطة بالأجهزة الأمنية الإسرائيلية والغربية، وهي جهة غير موثوقة من قبل المنظمات الإنسانية الدولية والأممية، وتواجه صعوبات في جمع التبرعات والبدء بنشاطاتها.
ورغم أن المؤسسة تدّعي أنها محايدة ومستقلة، إلا أن أنشطتها على الأرض تكشف عن استهداف المساعدات فقط إلى مناطق خاضعة لسيطرة الاحتلال أو ميليشياته المتعاونة، ومنع وصولها إلى مستشفيات ومراكز إيواء في شمال غزة ووسطها، بما يخدم هدف إعادة تشكيل الوعي والانتماء عبر الغذاء والدواء المشروطين أمنيًا، ويرز في هذا السياق عمليات قطع الطريق لقوافل المساعدات من قبل عصابات مسلحة مدعومة من الاحتلال الإسرائيلي.

حصار المنظمات الأممية:
ضمن الخطة ذاتها، تخضع المنظمات الإنسانية الدولية لقيود غير مسبوقة عبر منعها من العمل إلا بتصاريح أمنية تُصدرها وزارة “مكافحة معاداة السامية” الإسرائيلية، وهي جهة سياسية، تُقصي تلقائيًا كل منظمة سبق لها أن انتقدت الاحتلال أو وثقت جرائمه، واستنكرت ممارسات الإبادة الجماعة، وانتهاكات القانون الدولي الإنساني.
عرقلة دخول موظفي الإغاثة الدوليين وتقييد وصول المساعدات إلى المناطق الأكثر تضررًا، ما يؤدي إلى أزمة إنسانية تُدار وتُستثمر سياسيًا لخدمة رؤية الاحتلال للقطاع كمنطقة “منزوعة المقاومة”.

تندرج هذه الخطة ضمن نموذج متقدم من “الاستعمار الإنساني”، حيث تتحول المعونات من وسيلة إغاثة إلى وسيلة سيطرة اجتماعية وسياسية، توظف فيها أدوات الذكاء الاصطناعي والرقابة لتقويض فكرة الصمود، وتجريد المجتمع الفلسطيني من حاضنته الشعبية للمقاومة، وهي تكشف عن الوجه الحقيقي للكيان الصهيوني الذي يستند إلى رؤية توراتية طهورية، تستحقر الآخر، وتدمر وتقتل كل ما يعود بالنفع على الإنسان من بنية تحتية وأشجار ومبان.
وفي الوقت ذاته، تسعى إسرائيل والولايات المتحدة من خلال هذه الهندسة “الإنسانية” إلى:
تحسين صورتها أمام المجتمع الدولي، وإظهار نفسها كجهة مسؤولة تتعامل مع الأزمة.
ضرب مصداقية المؤسسات الدولية الحقوقية التي تنتقد ممارساتها، عبر نزع الشرعية عنها وحرمانها من التراخيص اللازمة.
بناء بيئة ميدانية آمنة لاجتثاث الحاضنة الشعبية للمقاومة، بحجة العمل الإنساني المنضبط والمرخّص.

خلاصة وتوصيات:
رفضت معظم الهيئات الإنسانية الدولية والأمم المتحدة هذه الخطة بالجملة، لأنها لا تتوافق مع المعايير الإنسانية التي وضعتها مواثيقها الإنسانية، وهذا ما يقطع الطريق عليها وينبيء بفشلها وفضح ممارسات العدو الذي يشكف عن وجهه المتوحش.
يجب على المنظمات الدولية والحقوقية توثيق هذه الانتهاكات الممنهجة لميثاق العمل الإنساني الدولي، وفضح آليات توظيف المساعدات في الأجندات السياسية والعسكرية.
يجب المطالبة بإشراف أممي مستقل ومباشر على توزيع المساعدات، دون قيود أمنية إسرائيلية، لضمان الحياد والكرامة للمستفيدين.
الدعوة إلى تحقيق دولي مستقل في استخدام المعونات الإنسانية كأداة استخباراتية، ومعاقبة الجهات التي تنتهك القانون الإنساني الدولي تحت غطاء العمل الخيري.

من الواضح أن ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية ومؤسساتها الأمنية والعسكرية، في اختراع خطط شيطانية ما هي إلا محاولات بائسة للتهرب من الملاحقة القانونية للجرائم التي تقوم بها يومياً بحق الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، وهي لا تسقط بالتقادم، فمهما طال الزمن ستلاحق “إسرائيل” في كل المحافل الدولية التي تحترم نفسها ويلاحق قادتها المدنيين والعسكريين كمجرمي حرب في العالم أجمع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى