الاحتلال يروج لتعيين “حاكم مدني” وغزة ترفض نسخة بريمر الفلسطينية

فيما ضخت وسائل إعلام عبرية تقارير عن خطة لتعيين رجل الأعمال الفلسطيني سمير حليلة في منصب حاكم مدني لقطاع غزة، يبدو أن التاريخ يكرر نفسه، ولكن في نسخة أكثر سخرية ووقاحة.
الحاكم المدني الجديد ليس إلا نسخة معدلة من بول بريمر، ذلك الرجل الذي نُصّب على العراق بعد الاحتلال الأميركي عام 2003 ليكون واجهة لإدارة الاحتلال، ويفرض قراراته المدمرة باسم “إعادة الإعمار” بينما كان يجهز الأرض لسنوات طويلة من الانهيار والفوضى.
اليوم، تحاول واشنطن وتل أبيب إعادة إنتاج السيناريو ذاته في غزة: وجه فلسطيني ينفذ أجندة المحتل، يغطي على المجازر والحصار، ويقدّم الأمر وكأنه “إدارة مدنية” لا “حكم عسكري مباشر”.
سمير حليلة: مشروع حاكم الاحتلال
سمير حليلة ليس شخصية عابرة في التاريخ السياسي الفلسطيني، فهو أحد مهندسي اتفاق باريس الاقتصادي الذي كرّس تبعية الاقتصاد الفلسطيني لإسرائيل، وقيّد قدرة الفلسطينيين على بناء اقتصاد مستقل.
هذا الاتفاق يُنظر إليه اليوم كأحد أكبر القيود التي كبّلت التنمية الفلسطينية وربطتها بإرادة الاحتلال.
والآن، بدلاً من مراجعة تلك الأخطاء، يُعاد تدوير نفس الأسماء لتلعب دورًا أخطر: منح الاحتلال غطاءً فلسطينيًا لإدارة غزة بعد أن دمّرها عسكريًا، وفرض واقعًا جديدًا يتجاوز المقاومة، ويعيد تشكيل القطاع وفق الشروط الإسرائيلية.
السيناريو المكرر: بول بريمر في العراق، حليلة في غزة
بريمر حلّ الجيش العراقي، حليلة قد يُكلّف بحل أي بنية إدارية أو تنظيمية مرتبطة بالمقاومة.
بريمر أعاد هيكلة الاقتصاد لصالح الشركات الأميركية، وحليلة قد يدير إعادة إعمار غزة بما يخدم المقاولين والشركات المرتبطة بإسرائيل وداعميها.
بريمر عمل بظل احتلال مسلح، وحليلة – مهما حمل لقب “مدني” – سيعمل تحت حماية البندقية الإسرائيلية وإشراف استخباراتها.
هذه ليست “إدارة مدنية”، بل سلطة وكيلة، غرضها الوحيد أن يقال للعالم إن غزة “تدار فلسطينيًا”، بينما القرارات الحقيقية تأتي من مكاتب الاحتلال.
إحباط الطامحين المحليين: صراع على فتات الاحتلال
الخطوة لا تعني فقط سيطرة الاحتلال، بل تكشف أيضًا حجم الوهم الذي كان يعيشه بعض الطامحين للسلطة:
ياسر أبو شباب، الذي أعلنت تقارير إسرائيلية تعيينه حاكمًا مدنيًا لمنطقة شرق رفح، سيفهم أن مهمته كانت محدودة، وأن “الكرسي الأكبر” ذهب لغيره.
حسين الشيخ، الرجل الأقوى في السلطة الفلسطينية بعد الرئيس، كان يحلم بإدارة الضفة وغزة، فإذا به يرى المنصب يذهب لشخص آخر خارج الدائرة الرسمية للسلطة.
محمد دحلان، الذي قضى عمره يسوّق نفسه كمنقذ، اكتشف أن أحلامه تبخرت، وأن الاحتلال يوزع المناصب حسب الحاجة، لا حسب الولاء القديم.
في النهاية، هؤلاء جميعًا – رغم كل ما فعلوه لمحاربة المقاومة والتنسيق مع الاحتلال – خرجوا من المولد بلا حمص.
الأهداف الحقيقية وراء تعيين حليلة
- القضاء على أي نفوذ للمقاومة
إسرائيل تريد وجهًا فلسطينيًا يوقع الأوامر، يحل الأجهزة الإدارية المرتبطة بالمقاومة، ويعيد تشكيل المشهد بالكامل بما يخدم أمن الاحتلال.
- إعادة الإعمار المشروط
التحكم في أموال الإعمار وجعلها أداة ابتزاز: من يلتزم بالقواعد الإسرائيلية يحصل على دعم، ومن يرفض يُترك للمجاعة والدمار.
- التسويق الدولي
دولة الاحتلال بحاجة لخطاب جديد أمام الغرب: “غزة لم تعد تحت حكم فصائل المقاومة”، بل تحت “إدارة مدنية فلسطينية”، لتخفيف الضغط الدولي وفتح باب التطبيع الاقتصادي.
- التحكم بالحياة اليومية
من الكهرباء والمياه، إلى المعابر والمساعدات، ستبقى كل مفاتيح الحياة في يد الاحتلال، بينما الحاكم المدني مجرد واجهة توقع على القرارات.
تحديات الشرعية المفقودة
المعضلة الأساسية أمام حليلة – أو أي حاكم مدني يعيّنه الاحتلال – أنه يفتقد لأي شرعية شعبية. في غزة، أي إدارة تأتي على ظهر دبابة إسرائيلية ستُعامل كسلطة عميلة، ما يجعلها معزولة جماهيريًا وعرضة للرفض والمقاطعة وربما المواجهة.
إضافة إلى ذلك، البنية التحتية في القطاع منهارة تمامًا، والوضع الإنساني في أسوأ مراحله، والاحتلال لن يمنحه الصلاحيات الفعلية لمعالجة هذه الكوارث، بل سيبقيه في إطار “الموظف المنفذ”.
مشروع محكوم بالفشل
التجربة تقول إن أي سلطة مدنية تُفرض من الاحتلال مصيرها الفشل. من فيتنام إلى العراق، ومن الضفة إلى غزة، كل “الحكام المدنيين” الذين جاؤوا تحت حراب المحتل انتهوا إما كأدوات مهملة أو كرموز للخيانة في نظر شعوبهم.
سمير حليلة، إذا قبل بهذا الدور، سيدخل التاريخ الفلسطيني لا كرجل أعمال معروف، بل كـ بول بريمر غزة، الواجهة التي حاول الاحتلال استخدامها لتجميل وجهه القبيح بعد حرب إبادة.
والسخرية الأكبر أن من حلموا بهذا المنصب طوال حياتهم – من حسين الشيخ إلى محمد دحلان – اكتشفوا أنهم كانوا مجرد بيادق في لعبة أكبر، وأن الكرسي الذي سعوا إليه لم يكن يومًا لهم، بل دائمًا لمن يختاره المحتل.