تحليلات واراء

قافلة الصمود: مبادرة شعبية تفضح تواطؤ الحكومات العربية في حصار غزة

لم يكن في نية المشاركين في قافلة “الصمود” إلى غزة أن يشتبكوا مع دولة، ولا أن يتحدّوا نظامًا، أو يخرقوا قانونًا، أو يثيروا شغبًا.

بل كانوا مجرد مجموعة من المواطنين العرب الأحرار، اجتمعوا من المغرب وموريتانيا والجزائر وتونس وليبيا، يعبرون برًا نحو بوابة فلسطين، حاملين معهم رسالة تضامن وإنسانية إلى شعب يُذبح يوميًا في غزة تحت مرأى ومسمع من كل العالم.

وكان يكفي أن تعبر القافلة إلى معبر رفح لترسل رسالة أمل، بأن شعوب الأمة لم تمت، وبأن هناك من يرفض التواطؤ مع حصار الجوع والموت.

لكن قافلة الصمود اصطدمت بجدار صدٍّ عربي رسمي، من النوع الذي بات مألوفًا كلما تحركت الشعوب العربية تلقائيًا لدعم القضية الفلسطينية.

ظهرت مصر الرسمية في مقدمة من تصدوا لهذه القافلة، واحتشدت بأجهزتها الأمنية والدبلوماسية والإعلامية لإحباطها، ليس فقط بمنعها من الوصول، بل بالتحريض عليها، وترويج الأكاذيب بشأن أهدافها، وملاحقة المشاركين فيها أمنيًا، بل وتشويههم.

من المبادرة المدنية إلى تهديد مزعوم للأمن القومي

الرد المصري لم يكن مجرد رفض دبلوماسي أو اعتذار سياسي، بل حملة قمع وتحريض. إذ تعاملت السلطات المصرية مع المشاركين في القافلة كما لو كانوا خصومًا سياسيين خطرين، أو عناصر مشبوهة تُهدد الأمن القومي.

وقد طالت المطاردات ناشطين وصلوا بتأشيرات رسمية، واحتُجز البعض في المطارات، ومُنع آخرون من مغادرة أماكن إقامتهم، بينما تعرّضت الوفود القادمة من أوروبا – ومن ضمنهم ناشطون أجانب – لمضايقات أمنية استهدفت كسر إرادتهم وإجبارهم على المغادرة.

اللافت أن هذه الحملة الأمنية ترافقت مع حملات إعلامية قادتها أبواق السلطة ولجانها الإلكترونية، استخدمت فيها لغة رديئة مفعمة بالتحريض والسخرية، وصلت إلى حد تصوير القافلة كـ”مؤامرة إخوانية دولية” تستهدف زعزعة استقرار مصر.

وهو خطاب يُكرّس نزعة السلطة المصرية لرؤية كل مبادرة شعبية خارج الأطر الرسمية تهديدًا مباشرًا لهيبتها، حتى وإن كان الهدف منها إنسانيًا خالصًا.

قافلة شعبية تفضح شراكات رسمية مع الاحتلال

لماذا هذا القمع الهستيري لقافلة سلمية؟ الإجابة ربما نجدها في توقيت انطلاق القافلة، الذي تزامن مع إعلان بلومبيرغ عن اتفاق جديد بين مصر ودولة الاحتلال الإسرائيلي، يقضي بزيادة ضخ الغاز الإسرائيلي للقاهرة بنحو 500 مليون متر مكعب بدءًا من يونيو 2025، على أن تصل الكمية إلى 4 مليارات متر مكعب سنويًا في يوليو المقبل.

اتفاقية طويلة الأمد وُقّعت قبل أشهر، ويجري تفعيلها في أوج الإبادة الجماعية في غزة، وكأن رسالة القاهرة للشعب الفلسطيني مفادها: الغاز قبل العروبة، والمصالح قبل الأخلاق.

تحالف القمع العربي: من القاهرة إلى الرياض وأبوظبي

ما جرى مع قافلة الصمود في مصر ليس استثناءً، بل هو جزء من سياق إقليمي أوسع، يُدار فيه الملف الفلسطيني من زاوية “إطفائية سياسية” هدفها منع اشتعال أي حالة تضامن شعبي قد تُحرج الحكومات أو تهدد سكون التطبيع.

في هذا السياق، لا يخفى على أحد أن إحباط القافلة تم بتنسيق غير معلن مع أنظمة عربية أخرى، وعلى رأسها الإمارات والسعودية، اللتين تمثلان مع القاهرة محورًا رئيسيًا في تطويق أي فعل مدني داعم لغزة أو ناقد لمجازر الاحتلال.

هذه الأنظمة تدرك تمامًا أن أي فعل شعبي حرّ، ولو كان رمزيًا، كقافلة تمرّ عبر أراضيها، يُعد تهديدًا لسرديتها حول “احتكار التمثيل الرسمي للقضية الفلسطينية”. ولهذا كان لا بد من إجهاض القافلة، وكسر رمزية استقلالية الفعل الشعبي، وحرمان الشعوب من التعبير عن ألمها وغضبها.

من ميدان التحرير إلى معبر رفح: الذاكرة الممنوعة

ربما ما يُقلق هذه الأنظمة أكثر من القافلة نفسها، هو رمزيتها: فالقافلة لم تكن فقط محاولة لمساعدة غزة، بل تذكيرًا بما نُسي عمدًا منذ أن تمّ الانقلاب على ثورات الربيع العربي.

جاءت القافلة تحمل في طيّاتها صوتًا مكتومًا لشباب حلموا يومًا بالحرية، وإذا بهم يعودون بعد أكثر من عقد، لا إلى الميادين، بل إلى حدود بلادهم، فقط ليُقال لهم: لا مكان لكم هنا.

في هذا السياق، يبدو أن قافلة الصمود قد أدّت أكثر مما كان يُنتظر منها، فمجرد وجودها ونجاحها في الحشد والتعبئة، رغم العوائق، أحرج الأنظمة، وكشف مدى الهشاشة الأخلاقية لمن يحتكرون قرار دعم فلسطين، ويحددون ما يُسمح وما لا يُسمح به، في زمن الحرب والمذابح.

الدرس الأهم من تجربة قافلة الصمود هو أن حركة التضامن المدني ليست ترفًا، بل ضرورة تاريخية في وجه نظام عربي رسمي متواطئ، إما بالصمت، أو بالمشاركة الفعلية في خنق غزة. لقد فتحت هذه القافلة ثغرة في جدار الصمت العربي، وأعادت الاعتبار لفعل “المواطنة التضامنية” في زمن استُبيحت فيه القيم وتحالفت فيه الأنظمة مع القتلة.

ليس مطلوبًا من المواطنين أن يحلّوا مكان الحكومات، بل أن يُظهروا عجز هذه الحكومات ويُعرّوا تخاذلها. فقوافل مثل “الصمود” تُذكّر الجميع أن الشعوب، وإن صودرت أصواتها، قادرة على أن تخلق فعلًا مؤثّرًا، رمزيًا وماديًا، يُزعج القتلة ويُربك المتواطئين، ويُعيد إحياء قيمة “الإنسانية” في عالم فقد بوصلته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى