شبكة أفيخاي تتصدر الترويج لخطط الاحتلال لإعادة إنتاج جيش لحد في غزة

منذ بدء العدوان الإسرائيلي الشامل على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، يعيش الفلسطينيون واحدة من أحلك الفترات في تاريخهم المعاصر، إذ اجتمع على سكّان القطاع القصف والتجويع والتشريد الجماعي، فيما تسعى دولة الاحتلال الإسرائيلي لتوظيف هذه الكارثة في مشروع قديم متجدد: إعادة إنتاج أدوات الاحتلال المحلي بما يشبه جيش لحد في غزة.
يتم ذلك من خلال وكلاء فلسطينيين يُعاد تسويقهم على أنهم “منقذون”، بينما يؤدون أدواراً وظيفية في ترويض الوعي والميدان.
وفي قلب هذه المسرحية السوداء، تتصدر “شبكة أفيخاي” — التي تضم متعاونين ومؤثرين يروّجون للمواقف الإسرائيلية — جبهة الترويج لخطة الاحتلال لإقامة جهاز أمني محلّي في غزة على غرار “جيش لبنان الجنوبي”، تزامناً مع إدخال “المساعدات الإنسانية” كسلاح ناعم لإعادة تشكيل البيئة السياسية والاجتماعية داخل القطاع.
المساعدات كسلاح سياسي
لا يمكن فصل المخطط الجاري عن منظومة التحكم بالموارد، إذ تستخدم إسرائيل ورقة المساعدات ليس كاستجابة إنسانية، بل كورقة ابتزاز سياسي، حيث بات الغذاء والدواء مشروطين بالولاء ومرهونين بالإذعان.
فمنذ تسليم الجندي الأميركي عيدان ألكسندر من يد المقاومة في غزة، تسارعت وتيرة تطبيق خطة توزيع المساعدات عبر شركة GHF الأميركية، في نموذج يهدف لتجاوز الأجسام الشرعية كالأونروا والمؤسسات المحلية، وفرض منظومة بديلة تدار من خارج السياق الوطني.
يأتي هذا التحرك ضمن استراتيجية شاملة أطلقها الاحتلال تحت مسمى “مركبات جدعون”، وتستند إلى تجفيف بيئة المقاومة من الداخل، لا فقط عبر القوة العسكرية، بل من خلال التحكم في القوت والحياة اليومية، وتكريس واقع جديد من “التحكّم الناعم” عبر وكلاء محلّيين.
فبحسب منظمة أوكسفام، لم يدخل سوى 2% من الغذاء المعتاد إلى غزة منذ اندلاع الحرب، ما تسبب في تراجع عدد الوجبات اليومية إلى وجبة كل 48 ساعة، بينما يعاني أكثر من 93% من السكان من سوء التغذية. هذا الاستخدام المتعمد للتجويع كسلاح حرب يُعد جريمة بموجب القانون الدولي، لكنه يُدار اليوم بصمت دولي وتواطؤ إعلامي.
شبكة أفيخاي: أداة بروباغندا وترويج
في هذا السياق، تلعب “شبكة أفيخاي” دوراً محورياً في تبييض هذه الخطط وشرعنتها داخل الفضاء الفلسطيني.
وتضم الشبكة خليطاً من الناطقين الإعلاميين باسم جيش الاحتلال، ومنصّات إلكترونية ناطقة بالعربية، إلى جانب فلسطينيين موالين للاحتلال يعملون على ترويج خطاب إنساني زائف، يُظهر الاحتلال كجهة حريصة على إيصال المساعدات، ويقدّم العملاء المحليين كـ”منقذين” في مواجهة “المعرقلين”، الذين هم في الحقيقة رجال المقاومة.
الهدف هنا ليس فقط تشويه صورة المقاومة، بل تفكيك شرعيتها الأخلاقية، وخلق تعارض بين معيشة الناس والتمسّك بخيار الكفاح.
“جيش لحد” بنسخة غزية
ما يجري اليوم ليس بدعة. فالتجربة اللبنانية خلال الثمانينيات تسكن خلفية العقل الإسرائيلي: جيش لبنان الجنوبي، بقيادة سعد حداد ثم أنطوان لحد، شكّل جهازاً أمنياً محلياً يخدم الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان.
اليوم، تحاول دولة الاحتلال تكرار التجربة ذاتها في غزة، عبر ما يُسمّى “جهاز مكافحة الإرهاب” بقيادة المدعو ياسر أبو شباب — شخصية مغمورة سابقاً، تحمل تاريخاً إجرامياً في القطاع، وتتموضع اليوم تحت حماية إسرائيلية مباشرة في جنوب غزة.
أبو شباب، الذي سبق ربط اسمه بتنظيم داعش، بات يتصدّر مشهد توزيع المساعدات في الجنوب، ويرتدي خوذة عسكرية إسرائيلية ودرعاً للسلطة الفلسطينية، في مشهد يعبّر عن جوهر المشروع: تجنيد قطاع الطرق والفاسدين لإدارة شؤون المدنيين.
إنه إعادة إنتاج لـ”اللحدية” بملامح محليّة، لكن بأدوات أميركية وإسرائيلية، وأهداف سياسية تسعى لإفراغ القطاع من عناصر القوة الذاتية، وإعادة تشكيله ككيان تابع بلا سيادة.
تفكيك الرموز وتزييف الوعي
تكمن خطورة المشروع في أنه لا يستهدف فقط جسد المقاومة، بل روحها، فهو يعمل على تفكيك الرموز والشرعيات داخل المجتمع الفلسطيني، من خلال التلاعب بصور الأبطال والأوغاد.
فجأة يصبح اللص منقذاً، ويُصوّر المقاوم كمعرقل لوصول الطعام، وتُعاد صياغة الرمزية المجتمعية على نحو يجعل من “المتعاون” جسراً للحياة، فيما يُجرّد صاحب البندقية من أي بُعد أخلاقي أو شعبي.
وتسعى أدوات الدعاية، من “شبكة أفيخاي” وحتى الحسابات العربية المتواطئة، إلى تلميع هؤلاء الفاسدين عبر سرديات “الإنقاذ الإنساني”، وتصويرهم كبدائل للحكم والمجتمع، في محاولة للقول: إن مرحلة ما بعد الحرب يجب أن تدار عبر هؤلاء، لا عبر الفصائل أو المجتمع المدني أو البنى الأصيلة في غزة. وكأن الجوع كافٍ لإعادة هندسة المشهد السياسي وفرض “جيش لحد غزي” على أنقاض مجتمع مقاوم.
محاولات سابقة ومحاصرة مجتمعية
ليست هذه المحاولة هي الأولى. فقد سبقها خلال الأشهر الأولى للحرب محاولات لتمكين السلطة الفلسطينية من العودة إلى القطاع عبر ترتيبات أمنية سرية جرت في القاهرة بإشراف المخابرات الفلسطينية، بهدف تسلل قوات أمنية تحت غطاء “النازحين”.
كما حاول الاحتلال اللعب على وتر العشائر، مستغلاً حاجة بعض العائلات للمساعدات، لكن وعي المجتمع وتصدي المقاومة ساهما في وأد هذه المشاريع سريعاً.
اليوم، تكمن خطورة النموذج الجديد في أنه يولد من قلب الفوضى والحاجة، ويرتكز على شخصيات محلية خارجة عن القانون، باتت تمتلك السلاح والغذاء والتغطية الجوية.
لكن رهان الاحتلال على النجاح يتجاهل الحقيقة الأهم: أن غزة ليست بيئة قابلة للخصي السياسي، وأن ذاكرتها النضالية لا تسمح بإعادة تدوير اللصوص كقادة.
مقاومة التجويع وأوهام الاحتلال
في النهاية، لا يمكن تأسيس نظام سياسي أو أمني على رماد الجوع، ولا فرض قيادة عميلة من خارج الشرعية الوطنية. التجويع قد يكسر مؤقتاً، لكنه لا يُنتج شرعية.
أما “جهاز مكافحة الإرهاب” وأمثاله، فهم مجرد أدوات وظيفية في مشروع أكبر هدفه ترويض غزة وتحويلها إلى كيان هش فاقد للسيادة. لكن ذاكرة الشعب الفلسطيني، المحصنة بعقود من النضال، قادرة على كشف الأقنعة، وتمييز الفرق بين المقاوم والسارق، بين المخلص والمأجور.
ولن يكون مصير مشروع “جيش لحد غزي” مختلفاً عن سلفه اللبناني: انهيار وظيفي، ونهاية مخزية. فغزة، التي قاومت القصف والتجويع والخذلان، لن تستسلم لمرتزقة الخبز، ولن يطول الأمر حتى ينكشف هذا المسرح الزائف، ويسقط مجدداً تحت أقدام الوعي الشعبي المقاوم.





