تحليلات واراء

الإعلام السعودي يجمّل الإبادة: من دماء غزة إلى “مأساة” بلا قاتل

في خضم حرب الإبادة الإسرائيلية المفتوحة على غزة، اختارت منصات الإعلام السعودي ومشتقاته الرسمية وشبه الرسمية كلمة “مأساة” لوصف ما يجري في محاولة مفضوحة لتبييض صورة الاحتلال الإسرائيلي ومجازره.

ويرى مراقبون أن الاستعانة بوصف كلمة “مأساة” قد تبدو إنسانية ومحايدة للوهلة الأولى، لكنها في الواقع تحمل في طياتها انحيازًا كاملًا؛ إذ تجرّد الجريمة من فاعلها، وتحوّلها إلى مجرد حادث عرضي أو كارثة طبيعية.

فعندما نصف القتل الجماعي والتهجير الممنهج بـ”المأساة”، فإننا نُسقط من السرد أهم عنصر: الجلاد.

فالكلمة تُركّز على النتائج المؤلمة كالقتل والدمار، لكنها تخفي السبب المباشر: عدوان مسلّح شنه جيش الاحتلال الإسرائيلي.

هكذا يتحول القصف الذي أباد آلاف العائلات إلى ما يشبه انفجار بركان أو فيضان عارض، لا إلى جريمة حرب متعمدة.

وبحسب المراقبين فإن الإعلام السعودي، باعتماده هذا التعبير، يسلب الضحية حقها في تسمية الفعل كما هو: إبادة جماعية وعدوان ممنهج. وهو، في الوقت ذاته، يخدم القاتل حين يعفيه من المسؤولية ويقدّم الجريمة على أنها قضاء وقدر لا يمكن مساءلة أحد عنه.

إعلام دول التطبيع العربي

اللغة ليست منفصلة عن السياسة. وصف العدوان على غزة بـ”المأساة” ينسجم مع خط سياسي سعودي يسعى إلى إبقاء الباب مفتوحًا مع تل أبيب وواشنطن.

فهو خطاب يريح الساسة الذين لا يريدون إدانة مباشرة للعدو، ويستجيب لمعادلة “التطبيع تحت الطاولة”، حيث تُخفى الجرائم خلف كلمات مخففة.

هذا التواطؤ اللغوي ليس جديدًا. سياسيون أميركيون، وعلى رأسهم الرئيس دونالد ترامب، استخدموا الكلمة ذاتها في السابق. لكن أن يكررها الإعلام السعودي في قلب لحظة الإبادة، فهذا يكشف عن وظيفة محددة: حرف النقاش بعيدًا عن المحاسبة والمسؤولية، وتحويل الجريمة إلى مأساة إنسانية عامة لا تحتاج سوى إلى التعاطف، لا إلى المواجهة.

إذ أن خطاب “المأساة” يقوّض أبسط معايير العدالة. إذ بينما يحتاج الضحايا إلى اعتراف واضح بجريمة الاحتلال وضرورة محاسبته، يُساق الرأي العام إلى مساحة ضبابية يُستبدل فيها الغضب بالشفقة، والمطالبة بالقصاص بالدعوات الإنسانية العامة.

وذلك في صياغة تهدف إلى إطفاء جذوة الغضب الشعبي وتسكين الضمير العالمي بمسكنات لغوية.

والإعلام الذي يكرر هذه الكلمة لا ينحاز للإنسانية كما يدّعي، بل ينحاز إلى القاتل، لأن إلغاء الفاعل من السردية هو خدمة سياسية بامتياز.

الإعلام السعودي في مرمى النقد

هنا تتضح معالم الدور الذي يلعبه الإعلام السعودي: التستر على حقيقة الاحتلال وتقديمه بصورة “شريك طبيعي” في المستقبل الإقليمي، بينما تُمحى دماء الأطفال والنساء والرجال تحت لافتة “المأساة”.

وهذا الخطاب ليس مجرد ضعف مهني، بل هو خيانة سردية تعكس انحيازًا سياسيًا ضد قضية فلسطين، وتتماهى مع خطاب واشنطن وتل أبيب.

إنها سياسة إعلامية تُحاول إعادة تشكيل الوعي العربي عبر إغراقه بمصطلحات مشوهة، تجرّد الأحداث من سياقها السياسي والقانوني، وتعيد إنتاج “القاتل المجهول”.

والفارق بين أن نصف ما يجري في غزة بـ”المأساة” أو بـ”الإبادة” ليس مجرد فرق لغوي. فالأول يمحو الفاعل ويحوّل الدماء إلى مشهد طبيعي، والثاني يحدد المسؤولية ويفتح الباب للمحاسبة. عندما يتبنى الإعلام السعودي مصطلح “المأساة”، فإنه يشارك عمليًا في حماية القاتل من العقاب، ويساهم في تضليل الرأي العام العربي.

إنها ليست مجرد كلمة، بل سياسة ممنهجة. ومن هنا فإن النقد لا يتوجه إلى المصطلح وحده، بل إلى المنظومة الإعلامية التي اختارت أن تكون أداة في تبرئة الاحتلال، بدلاً من أن تكون منبرًا للحق والعدالة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى