تحليلات واراء

تواطؤ مصري في مخطط تهجير غزة عبر منع الإمدادات الإنسانية

يجمع مراقبون على أن ثمة تواطؤ مصري رسمي وصريح في مخطط تهجير سكان غزة عبر منع الإمدادات الإنسانية إلى القطاع، وعجز القاهرة عن مجرد إدخال كيس طحين للمدنيين الفلسطينيين في خضم حرب الإبادة الجماعية المستمرة منذ أكثر من عام ونصف.

وقال الباحث والكاتب المصري عمر سمير إن هذا التواطؤ يعكس تراجع الدور المصري إلى حدود غير مسبوقة، حيث أصبح الصمت والتقاعس عنوان السياسة الرسمية تجاه المأساة الفلسطينية.

وأبرز سمير، أنه على مدار الأسابيع الماضية، تصدرت نداءات الاستغاثة من سكان غزة المشهد الإنساني، مع تصاعد أزمة الجوع التي تعصف بالقطاع نتيجة الحصار المطبق.

ورغم مرور أكثر من 19 شهراً على بدء العدوان الإسرائيلي في أكتوبر 2023، ورغم التوصل إلى اتفاقات لوقف إطلاق النار بشكل متقطع، فإن إسرائيل ما زالت تفرض حصاراً خانقاً يمنع إدخال أبسط مقومات الحياة، وسط عجز عربي وإسلامي فاضح عن تنفيذ حتى الاتفاقات المبرمة.

وقد تحول شعار “كيس طحين يا مصر” إلى صرخة مدوية على منصات التواصل الاجتماعي، لكنه سرعان ما خفت وسط حالة من الاعتياد على مشاهد الموت، سواء بالقصف أو بالتجويع.

ومع ذلك، تبقى هذه النداءات شاهداً على سياسة إسرائيلية ممنهجة تهدف إلى تحويل القطاع إلى منطقة غير صالحة للحياة، لإجبار سكانه على التهجير القسري، وهو ما يتماهى معه الصمت المصري الرسمي، بحسب ما أكد سمير.

تجويع ممنهج وابتزاز إنساني

أصبح واضحاً أن سياسة التجويع ليست مجرد أداة ضغط عابرة، بل جزء من خطة إسرائيلية استراتيجية تسعى لدفع الفلسطينيين إلى مغادرة أرضهم قسراً.

تدرك الحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو أن استمرار الحرب البرية مكلف بشرياً ومادياً، لذلك تلجأ إلى أدوات بديلة أقل كلفة عسكرية وأكثر تأثيراً إنسانياً، أبرزها الحصار والتجويع.

هذه السياسة لا تواجه فقط بلامبالاة من بعض الأطراف الدولية، بل أيضاً بتواطؤ إقليمي، يتمثل في تقاعس دول الجوار وعلى رأسها مصر عن كسر هذا الحصار.

ورغم أن القاهرة تعرف جيداً أن خنق غزة اقتصادياً وإنسانياً يؤدي عملياً إلى تنفيذ مخطط التهجير، إلا أنها تواصل تبرير موقفها بمقولات “البراغماتية السياسية” و”الحسابات القومية”، في تكرار لخطاب يبرر العجز والخذلان بمبررات واهية لا تصمد أمام الكارثة الإنسانية المستمرة.

انهيار الدور الإقليمي لمصر

لم تكن مصر، في مراحل سابقة، تتعاطى مع أزمة غزة بهذا المستوى من الانسحاب. فعلى مدار العقود الماضية، كانت القاهرة تلعب دوراً محورياً في فتح المعابر وإدارة الأزمات الإنسانية، حتى في أوقات الخلاف مع الفصائل الفلسطينية.

أما اليوم، فقد تراجع هذا الدور إلى حدود غير مسبوقة، حيث أصبح الاحتلال الإسرائيلي هو المتحكم الأول والأخير في محور فيلادلفي ومعابر القطاع، في ظل قبول مصري ضمني بهذا الواقع.

ويرى مراقبون أن هذا الانسحاب المصري ليس مجرد عجز تقني أو ظرفي، بل يعكس تحولاً استراتيجياً خطيراً في موقع مصر من القضية الفلسطينية، مرتبطاً بأجندات إقليمية أوسع تتماهى مع مسارات “التطبيع الاقتصادي” وصفقات السلام الإبراهيمي، التي ترى في إنهاء وجود المقاومة أولوية تفوق أي اعتبارات قومية أو إنسانية.

بين التخاذل والمصالح الاقتصادية

يربط البعض موقف القاهرة من حصار غزة باعتبارات اقتصادية بحتة، إذ إن سياسة استيراد القمح والطحين بأسعار مرتفعة من الخارج، تخدم مصالح لوبيات تجارية مرتبطة بمراكز النفوذ في الداخل المصري، ولا تضع الاعتبارات القومية والإنسانية في الحسبان.

في هذا السياق، يبدو التماهي مع سياسات الحصار جزءاً من شبكة مصالح إقليمية تتقاطع فيها حسابات اقتصادية مع مشاريع إماراتية وخليجية توسعية، تمتد إلى مناطق داخل مصر نفسها، حيث تم تفريغ مساحات واسعة من السكان لصالح مشروعات عقارية واستثمارية، وهو ما يوازي في رمزيته ما يُراد لغزة.

حلول عبثية وعجز شامل

أمام هذا الواقع المأزوم، لجأ البعض إلى طرح حلول يائسة، مثل إلقاء المساعدات الغذائية يدوياً عبر السياج الحدودي، أو استخدام طائرات مسيرة لإيصال الطرود، وهي أفكار تعكس حجم اليأس الشعبي من الموقف الرسمي.

ومع ذلك، تبقى هذه الاقتراحات رمزية، ولا تمثل بديلاً عن الحل الجذري المتمثل بفتح المعابر وإدخال المساعدات بشكل منظم ودائم.

وفي عهد حسني مبارك، ورغم كل الانتقادات التي طالت سياساته تجاه غزة، كانت مصر تحافظ على قدر من التوازن بين الضغوط الدولية والإقليمية وبين واجباتها الإنسانية والقومية.

أما في الوضع الراهن، فقد وصلت الهيمنة الإسرائيلية على معابر غزة إلى مستويات غير مسبوقة، في ظل قبول مصري فعلي بتحكم الاحتلال في كافة تفاصيل الحركة على الحدود، وهو ما يمثل تراجعاً خطيراً في الدور المصري الإقليمي.

كيس طحين كرمز للخيانة

لا يقتصر الانتهاك الإسرائيلي على فرض الحصار، بل يتعداه إلى استخدام المساعدات الغذائية كسلاح سياسي.

إذ تساوم حكومة نتنياهو على إدخال المساعدات مقابل شروط تعجيزية، مثل الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين أو الاستسلام الكامل للفصائل الفلسطينية، في خرق صارخ للقانون الدولي الإنساني. ومع ذلك، تكتفي القاهرة والدول العربية الأخرى بالتفرج على هذه الابتزازات، دون أن تحرك ساكناً.

في ظل هذا المشهد، يبقى النداء الفلسطيني البسيط من أجل “كيس طحين” شاهداً على خذلان عربي رسمي عميق.

فالمسألة لم تعد تتعلق بمواقف سياسية أو حسابات جيوسياسية معقدة، بل بحقيقة مرة مفادها أن الأنظمة العربية، ومنها مصر، باتت جزءاً من معادلة الحصار، سواء بالفعل أو بالصمت.

وبينما تستمر دولة الاحتلال في حربها على غزة، يبقى صمود القطاع مرهوناً بإرادة شعبه، في وقت يكتفي فيه الجوار العربي بمشاهدة الكارثة، دون أن يجرؤ على كسر جدار التجويع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى