آلية جديدة للمساعدات في غزة: “تحالف الأديان” كواجهة إنسانية وأداة لإعادة الهيمنة

بعد أكثر من 22 شهرا من حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، وبعدما تسببت سياسة الحصار المزدوج — العسكري والإنساني — في كارثة غير مسبوقة، يبدو أن دولة الاحتلال الإسرائيلي بصدد اعتماد آلية جديدة لإدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع.
فقد كشفت مصادر مطلعة أن الاحتلال وافق على تفعيل دور مؤسسة أميركية تُدعى “تحالف الأديان” (Alliance of Religions)، لتتولى ليس فقط إدخال شاحنات المساعدات إلى غزة عبر المعابر، بل الإشراف على توزيعها داخليًا، عبر شبكة من المؤسسات المحلية ووجهاء ومخاتير العائلات.
هذه الخطوة لا تأتي من باب “الإنسانية” المجردة. بل هي اعتراف إسرائيلي بفشل الآلية السابقة التي اعتمدت على إدخال الشاحنات إلى مستودعات الأمم المتحدة أو وكالة “الأونروا” أو منظمات الإغاثة الدولية، والتي تحولت إلى ساحة صراع بين السكان المنهكين وبين المجموعات المحلية المختلفة، وسط اتهامات بسرقة المساعدات وبيعها في السوق السوداء، وفشل تام في الوصول إلى المناطق الأكثر احتياجًا.
تحالف الأديان: مؤسسة إنسانية أم أداة سياسية؟
مؤسسة “تحالف الأديان” أميركية النشأة، ويقدَّم نشاطها كجهد خيري عابر للأديان، يعمل على “دعم الفقراء” و”تعزيز التعايش السلمي”. لكنها في السياق الفلسطيني ليست مجرد منظمة إنسانية.
إذ يرتبط بعض قيادييها بعلاقات وثيقة مع دوائر صنع القرار في واشنطن، وهي علاقات يرى محللون أنها قد تجعل من المنظمة أداة سياسية أكثر منها إنسانية.
ودولة الاحتلال ترى في هذه المؤسسة حلاً عمليًا لأزمتين متداخلتين:
أزمة الفوضى: فقد تبيّن أن إدخال المساعدات من دون إشراف مباشر يفتح الباب للفوضى، والنهب، وصراعات السيطرة عليها.
أزمة الصورة: تتلقى دولة الاحتلال اتهامات دامغة ومتصاعدة بارتكاب إبادة جماعية في غزة، ما يجعل ملف المساعدات إنسانيًا لكنه سياسي بامتياز. عبر “تحالف الأديان”، تسعى سلطات الاحتلال إلى تحسين صورتها أمام الغرب، باعتبارها تسمح بآلية “محايدة” لإغاثة السكان.
لكن المشكلة الكبرى أن دخول مؤسسة أميركية بهذه الطريقة إلى عمق غزة لا يُقرأ إنسانيًا فقط، بل أمنيًا وسياسيًا.
إذ يرى محللون أن دولة الاحتلال والولايات المتحدة قد تستثمران هذا الوجود لتمرير سياسات تهدف إلى خلق واقع اجتماعي جديد في القطاع، يُهمّش القوى المناهضة للاحتلال، ويعزز شبكة علاقات مع نخبة محلية جديدة يجري اصطفاؤها بعناية.
والخطة الجديدة تتضمن توزيع المساعدات عبر شبكة من المؤسسات المحلية، إضافة إلى وجهاء ومخاتير العائلات. لكن ثمة مخاوف جدية. إذ يدرك الاحتلال جيدًا أن هذه الشبكات يمكن تحويلها إلى أداة لضبط المجتمع، وتكريس الولاءات، خصوصاً إذا رُبطت المساعدات بموالاتهم أو صمتهم السياسي.
بمعنى آخر، قد تتحوّل “المعونة” إلى أداة ترغيب وترهيب: فمن يلتزم الحياد أو التعاون مع الآلية الجديدة ينال حصته من الغذاء والدواء، ومن يعارض أو يرفض يُعاقب بحرمانه وعائلته من المساعدات.
هذا الأسلوب ليس جديداً في سياقات الصراعات. بل سبق لإسرائيل أن وظّفته في الضفة الغربية، حيث استخدمت أموال “الشؤون الاجتماعية” كأداة ضغط على عائلات الأسرى والمقاومين.
تهميش “الأونروا” وإضعاف المؤسسات الدولية
دخول “تحالف الأديان” إلى المشهد لا يحدث في فراغ، بل يندرج ضمن مساعٍ إسرائيلية واضحة لإضعاف وكالة “الأونروا” وسحب ملف اللاجئين من يد الأمم المتحدة.
فمنذ بداية الحرب، تتعرض “الأونروا” لحملة إسرائيلية شرسة تتهمها بدعم “الإرهاب”، وتطالب بتفكيكها أو استبدالها بمؤسسات أخرى.
وفي السياق نفسه، يشير مراقبون إلى أن واشنطن قد ترى في “تحالف الأديان” أداة تُمكّنها من إدارة ملف المساعدات في غزة بطريقة تُقصي الأونروا تدريجياً، وتعيد تعريف هوية اللاجئين الفلسطينيين، بل وربما تسهم لاحقاً في هندسة مشهد سياسي واجتماعي جديد في القطاع.
واقع إنساني كارثي… واستغلال سياسي محتمل
لا شك أن غزة في أمسّ الحاجة لأي آلية قادرة على إدخال الغذاء والدواء والوقود، بعد أن بلغ الوضع الإنساني مستوى الكارثة. الوقائع على الأرض تتحدث عن مجاعة فعلية في بعض المناطق، وعن أطفال يواجهون خطر الموت جوعاً أو عطشاً.
لكن في الوقت نفسه، تبدو دولة الاحتلال مصممة على توظيف هذا الانهيار الإنساني في إطار مشروع سياسي وأمني طويل المدى. وهي تراهن على أن سكان غزة المنهكين سيقبلون أي بديل يخفف عنهم المعاناة، حتى لو جاء عبر أيدٍ أميركية أو بشروط سياسية غير معلنة.
الخطر الأكبر أن تتحوّل “تحالف الأديان” من جهة إغاثة محايدة إلى قناة لتطويع المجتمع، وفرز القوى المحلية بين موالين ومعارضين، وربما صناعة طبقة قيادية جديدة ترضى بالأمر الواقع.
هكذا، بينما تدخل الشاحنات إلى غزة تحت لافتة “تحالف الأديان”، يدخل معها مشروع سياسي لا يقل خطورة عن الحرب نفسها. فالمعركة في غزة لم تعد مجرد حرب دبابات وطائرات، بل حرب على الوعي والهوية والسيطرة على لقمة العيش.