تحليلات واراء

السلطة وفتح: النجاة من حرب غزة جريمة إن لم تمر عبر مكاتبها

وسط هجوم مزدوج على المقاومة

بينما تئن غزة تحت وطأة حرب إبادة غير مسبوقة، تكشف مواقف السلطة الفلسطينية وحركة فتح عن مفارقة لافتة: من جهة، تصرّ القيادة في رام الله على أن أي جهد إغاثي أو سياسي لإنقاذ غزة لا يجوز أن يمر إلا عبر مكاتبها ومؤسساتها، وكأن النجاة من الجحيم جريمة ما لم تحمل توقيع السلطة.

ومن جهة أخرى، لا تكلّ الأبواق الإعلامية التابعة للسلطة وحركة فتح عن تحميل المقاومة الفلسطينية مسؤولية الحرب وويلاتها، في خطاب يتماهى على نحو خطير مع الدعاية الإسرائيلية.

هذا التناقض الفادح ليس جديداً، لكنه اليوم يبلغ ذروة صارخة في سياق حرب حوّلت غزة إلى ركام، وأعادت خلط الأوراق الفلسطينية والإقليمية على نحو غير مسبوق.

“احتكار التمثيل” حتى في الموت والحصار

منذ الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي في أكتوبر 2023، تبنّت السلطة الفلسطينية خطاباً يربط أي تدخل دولي أو عربي بضرورة إشرافها عليه.

سواء تعلّق الأمر بالمساعدات الإنسانية أو بمشاريع إعادة الإعمار أو حتى بأي حديث عن ترتيبات “اليوم التالي”، تكرّر رام الله لازمة واحدة: لا شرعية لأي دور فلسطيني خارج إطار منظمة التحرير الفلسطينية، ولا غوث لغزة إلا عبر مؤسسات السلطة.

يبرز ذلك في مواقف رسمية، آخرها تصريحات قيادات بارزة في فتح، تعتبر أن أي جهة فلسطينية أو عربية أو دولية تتعامل مع غزة مباشرة إنما “تكرّس الانقسام” و”تمنح شرعية لسلطة الأمر الواقع”، في إشارة إلى حركة حماس وفصائل المقاومة.

لكن ما يكشف عمق الأزمة أن هذا الموقف لا يعبّر عن حرص حقيقي على الوحدة الوطنية، بقدر ما يعكس خشية السلطة من فقدان دورها الوظيفي والسياسي.

فمنذ سنوات، تعاني السلطة من تآكل شرعيتها داخلياً وتراجع تمويلها خارجياً، لتصبح معادلتها السياسية قائمة على مسألة واحدة: احتكار التمثيل الفلسطيني شرطٌ لبقاء وجودها.

ولذلك، لا تتردد فتح والسلطة في تصوير النجاة من حرب غزة أو الحصول على أي إغاثة خارج قنواتها الرسمية كجريمة سياسية أو حتى “خيانة وطنية”. وكأن بقاء الفلسطينيين أحياء مرهونٌ أولاً بالحصول على ختم موافقة رام الله.

الهجوم على المقاومة: رواية واحدة مع الاحتلال

المفارقة المأساوية أن السلطة وحركة فتح، بينما تمنع أي مسار بديل لإنقاذ غزة، تواصلان في الوقت نفسه حملة شعواء على المقاومة الفلسطينية.

وتصر وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية التابعة للسلطة على تكرار سردية تُحمّل المقاومة مسؤولية الحرب، متجاهلة السياق الأوسع للصراع، وتروّج لفكرة أن “حماس جرّت غزة إلى كارثة جديدة”.

حتى في ذروة القصف الإسرائيلي، لم تتوقف بعض الأبواق الإعلامية المحسوبة على السلطة عن التلميح بأن “المقامرة غير المحسوبة” هي سبب ما يجري، متناسية حقيقة أن الحرب الإسرائيلية ليست وليدة السابع من أكتوبر وحده، بل هي حلقة في مشروع مستمر يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، سواء عبر خنق غزة أو تهويد الضفة.

وتبدو هذه الرواية متطابقة – أحياناً حرفياً – مع الخطاب الإسرائيلي، الذي يحمّل المقاومة مسؤولية كل قطرة دم تسفك في غزة. بهذا المعنى، يجد الاحتلال نفسه مستفيداً من آلة دعائية مزدوجة: واحدة في تل أبيب، والأخرى في رام الله، تشترك كلتاهما في شيطنة المقاومة وتبرئة إسرائيل من جرائمها.

السلطة بين مأزق الوجود واغتنام الفرصة

ليست ازدواجية السلطة الفلسطينية في سياق حرب غزة مجرد “سوء تقدير سياسي”، بل هي انعكاس لأزمة وجودية عميقة. فمن جهة، تدرك قيادة السلطة أن استمرار الحرب يُضعف غزة ويفتح باب إعادة ترتيب أوراق القطاع بطريقة قد تُعيدها إلى هناك بدعم أمريكي وخليجي.

ومن جهة ثانية، تخشى هذه القيادة أن يُفضي إطالة أمد الحرب إلى موجة غضب شعبي في الضفة قد تُفجّر الشارع ضدها، خصوصاً في ظل تصاعد مقاومة مسلّحة محلية في جنين وطولكرم ونابلس.

السلطة اليوم تتراقص على حافة سكين: فهي لا تريد لغزة أن تخرج قوية من الحرب كي لا تزداد شرعية حماس وفصائل المقاومة، لكنها أيضاً لا تستطيع تحمّل انهيار القطاع الكامل، لأنه سيكشف عجزها عن تمثيل الشعب الفلسطيني في أصعب محنته.

في هذا السياق، تحاول السلطة استغلال كل فرصة لإثبات ضرورتها للغرب والدول العربية، فتقدّم نفسها بوصفها البديل الوحيد القادر على حكم غزة “بلا سلاح” و”بلا حروب”، رغم أنها في الواقع تفقد السيطرة تدريجياً حتى على الضفة الغربية.

ازدواجية خطاب فتح: استهداف للمقاومة… وتسوّل للتكليف

لا يقتصر هذا التناقض على السلطة بمفهومها المؤسسي، بل يشمل أيضاً حركة فتح كتنظيم سياسي.

ففي حين تُهاجم قيادات فتح المقاومة وتتهمها بالمغامرة، تسعى تيارات داخل الحركة، خصوصاً تلك المقرّبة من دوائر الأمن، إلى انتزاع تكليف إقليمي ودولي بإدارة غزة بعد الحرب.

أي أن فتح تُريد ثمرة “اليوم التالي”، لكن دون أن تتحمّل كلفة مواجهة الاحتلال أو دفع ثمن مقاومة تُجسّدها حماس وفصائل المقاومة.

وفي خطابها الموجّه للإقليم والعالم، تُصوّر فتح نفسها باعتبارها الطرف “العاقل” القادر على إنهاء الانقسام وضبط الأمن. لكنها، في خطابها الداخلي، تُبقي نبرة الهجوم على المقاومة حادة، كي لا تفقد امتيازاتها أمام الاحتلال ولا تخسر رضا المانحين الدوليين.

غزة ضحية بين الاحتلال والسلطة

في نهاية المطاف، يُظهر المشهد الفلسطيني أن غزة عالقة بين كماشة مزدوجة: احتلال إسرائيلي يمارس حرب إبادة، وسلطة فلسطينية تُريد حصد ثمار الدم والدمار، لكن على طريقتها وبشروطها. وبينهما شعب يبحث عن الأمان والنجاة والحد الأدنى من الحياة.

إن جريمة السلطة وفتح الحقيقية اليوم هي اعتبار أن النجاة من الحرب مشروع مشروط بمؤسساتها ومكاتبها، وفي الوقت نفسه مهاجمة المقاومة التي وحدها تقف في وجه آلة الحرب الإسرائيلية. وهذا الموقف لا يعبّر فقط عن أزمة سياسية، بل عن إفلاس أخلاقي في لحظة يُذبح فيها الفلسطينيون في غزة على مرأى العالم.

في المشهد الفلسطيني الراهن، يبدو أن السلطة وفتح نسيتا أن معركة غزة ليست معركة حماس وحدها، بل معركة وجود فلسطيني في مواجهة مشروع اقتلاع كامل. لكن في حسابات رام الله، يبدو أن الحفاظ على الدور والامتياز أهم من الحفاظ على الشعب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى