تحليلات واراء

دماء غزة تُراق تحت أقدام ترامب: خذلان الخليج أمام مجازر الاحتلال

غزة كمرآة للعار

بينما تواصل دولة الاحتلال الإسرائيلي قصف غزة بالقنابل المدمرة، وتحوّل أحياءها إلى مقابر جماعية، تلقى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استقبالات الأبطال في عواصم الخليج الرئيسية الرياض والدوحة وأبو ظبي.

مشهدان متوازيان يعكسان بحسب مراقبين جوهر السياسة الخليجية: في جانب، مذابح تطال الأطفال والنساء في غزة، وفي الجانب الآخر، حفلات تكريم، وصفقات تريليونية، ومصافحات دافئة مع من يمنح الاحتلال سلاح الإبادة.

لم تكن جولة ترامب في الخليج جولة دبلوماسية طبيعية. بل كانت استعراضًا فجًّا للولاء، تُغذّيه الخيانة السياسية وتُزينه مليارات الدولارات. وكأنما أراد حكام الخليج، عن سبق إصرار، أن يقدموا الولاء لهذا الرجل مقابل استمرار دعم واشنطن لعروشهم المهترئة.

الخليج كـ”خزنة” لترامب

خلال ولايته الأولى، لم يُخفِ ترامب احتقاره لحلفائه العرب. تفاخر علنًا بأن الملك سلمان “ما كان ليبقى في الحكم لأسبوعين لولا الحماية الأمريكية”، ومع ذلك، استمر تدفق مليارات الخليج إلى خزائن واشنطن.

بل تطور الأمر الآن إلى عروض علنية: السعودية تعرض 600 مليار دولار للاستثمار في الاقتصاد الأمريكي، والإمارات تعلن عن خطة لاستثمار 1.4 تريليون دولار خلال عقد.

هذه ليست استثمارات اقتصادية بقدر ما هي “إكراميات” سياسية، يشتري بها حكام الخليج صمت واشنطن عن جرائمهم وتسلطهم.

لكن المثير للسخرية أن ترامب نفسه لا يُبادلهم الاحترام. بالنسبة له، الخليج ليس سوى “صراف آلي جيوسياسي”، تُضغط أزراره بزيارات شكلية، فيُخرج مليارات لا سقف لها. هو لا يرى في هذه الدول حلفاء، بل خزائن مفتوحة، تُمنَحُ بلا مقابل.

 الدماء مقابل المال

في ذات الأيام التي كان فيها ترامب يُكرّم في الخليج، كانت غزة تحترق. المستشفيات في خان يونس وجباليا تحولت إلى أهداف عسكرية.

عشرات الشهداء والجرحى تحت أنقاض المباني التي دكتها قنابل أمريكية الصنع، أُلقيت بمباركة إدارة ترامب.

ومع ذلك، لم يجرؤ أي مسؤول خليجي على مطالبة ضيفهم بوقف المجازر، أو حتى مجرد الإشارة إلى معاناة الفلسطينيين واستخدام التجويع علنا ضدهم.

ما يحدث ليس عجزًا. السعودية، مثلًا، نجحت سابقًا في التأثير على واشنطن بملف اليمن. حين أرادت إنهاء التصعيد مع الحوثيين، ضغطت ونجحت. بل وصل الأمر إلى إقناع ترامب بلقاء شخصيات كانت موضوعة على قوائم العقوبات. هذا يعني ببساطة أن ما ينقصهم ليس النفوذ، بل الإرادة.

التطبيع من أجل وهم الحصانة

التحالف مع ترامب ليس وليد اللحظة. هو امتداد لتحالف أوسع عنوانه: التطبيع مع إسرائيل مقابل ضمان البقاء. صفقة “القرن” التي روج لها ترامب وكوشنر لم تكن إلا حلقة من هذا المشروع.

الخليج اليوم يعامل التطبيع كعملة سياسية يشترون بها الحصانة: حصانة من الضغوط الغربية، حصانة من رياح الديمقراطية، وحصانة من شعوبهم المقهورة.

لكن ترامب لم يقدّم لهم شيئًا سوى الإهانات. منح صهره جاريد كوشنر ملياري دولار من صندوق سعودي، وقابل هذا الكرم بمزيد من الابتزاز.

حصل على طائرة خاصة من العائلة الحاكمة في قطر بقيمة 400 مليون دولار، ثم سخر منهم علنًا قائلاً: “نحن نحافظ على سلامتهم… لولانا، لما كانوا موجودين الآن”.

غزة كمرآة للعار

كل قنبلة تسقط على غزة تكشف حجم الانحطاط في المشهد الخليجي. أنظمة تملك ثروات هائلة، وقنوات تأثير واسعة، لكنها تفضل شراء رضا قاتل أطفال غزة بدلًا من استخدام أوراقها لوقف المجازر.

بينما العالم ـ من الصين إلى أوروبا ـ يعبّر عن مواقف رافضة لتطرف إسرائيل، يركع الخليج، ويفتح خزانته لمن يستبيح دماء الفلسطينيين.

النكبة الفلسطينية لم تعد ذكرى عابرة. هي مستمرة يوميًا في غزة، بتواطؤ عربي مفضوح. حكام الخليج اليوم لا يخونون فلسطين فحسب، بل يخونون شعوبهم وتاريخهم ومستقبلهم. ومع كل شيك يُوقّع، يرسّخون أسماءهم في هوامش التاريخ الملطخة بالعار.

حين عاد ترامب إلى السلطة، عادت معه أسوأ النزعات: الاستعلاء، العنصرية، والانحياز الأعمى لإسرائيل.

لكن المختلف هذه المرة أن حكام الخليج يستقبلونه كمنقذ، لا كجزار. ينحنون له، يزينونه بالأوسمة، ويمنحونه تريليونات الدولارات، بينما يواصل تمكين نتنياهو وسموتريتش من تنفيذ مشروعهم في تطهير غزة عرقيًا.

العار ليس في وحشية ترامب. بل في أولئك الذين يستقبلونه كضيف شرف بينما دماء أطفال غزة لا تزال طرية تحت الركام. هو لم يخفِ نواياه قط: بالنسبة له، العرب “غير عقلانيين”، وإسرائيل “واحة الحضارة”. ومع ذلك، لا يطلبون منه شيئًا، بل يقدمون له كل شيء.

الخيانة لا تحفظ العروش

ثمن الصمت الخليجي يُدفع من دماء الأبرياء. في كل دقيقة تمرّ، هناك رضيع في غزة يُصارع الموت جوعًا، أم تُودّع طفلها تحت الأنقاض، ومستشفى يُستهدف بقنابل خارقة. كل ذلك يتم بسلاح أمريكي، ومباركة من ترامب، وصمت مدوٍ من عواصم الخليج.

لكن هذا الصمت ليس مجانياً. هو صفقة خاسرة، لأن ترامب لا يحترم إلا من يفرض نفسه بالقوة. هو يعجب ببوتين وأردوغان ليس لأنهم يقدمون له المال، بل لأنهم يدافعون عن مصالحهم. أما حكام الخليج، فهم يقدمون الاحترام بدلًا من التحدي، ويدفعون بدلًا من أن يضغطوا.

الرهان على ترامب ليس سياسة بقدر ما هو مقامرة خطيرة. أنظمة تراهن على من يحتقرهم، وتدفع ثروات شعوبها لإرضاء رجل يتعامل معهم كزبائن في كازينو سياسي. لكن التاريخ لا يرحم. ما يُشترى بالمال لا يدوم، وما يُبنى على الخيانة لا يحمي العروش.

وفي غزة، كل قذيفة تسقط، وكل جريمة تُرتكب، تضع الحكام العرب أمام شعوبهم في مواجهة محتومة. وحين يأتي الحساب، لن تنفعهم لا تريليوناتهم ولا صورهم بجانب ترامب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى