تحليلات واراء

إعلام التطبيع العربي يروّج للسردية الإسرائيلية لتبرير جرائم القتل الجماعي

منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أكتوبر 2023، تصاعدت المواجهة بين السرديتين: الفلسطينية التي تكشف حجم الجرائم والانتهاكات، والإسرائيلية التي تسعى إلى تبرير القتل الجماعي بذرائع أمنية مفضوحة.

في هذه المعركة الإعلامية، ظهر دور لافت لبعض وسائل الإعلام العربية، خصوصًا تلك التابعة لدول التطبيع الإمارات والسعودية، والتي لعبت دورًا مكمّلًا في تعزيز خطاب الاحتلال وترويج أكاذيبه، على حساب السردية الفلسطينية الأصيلة.

وقد تمثلت واحدة من أحدث الأمثلة في ترويج قناة “المشهد” المموّلة إماراتيًا لمزاعم إسرائيلية ضد الناطق باسم جهاز الدفاع المدني الفلسطيني في غزة، محمود بصل.

ويأتي ذلك في وقت دولة الاحتلال الإسرائيلي لم تكتفِ باغتيال الصحفيين واستهداف البنى التحتية الإعلامية، بل اتجهت إلى محاولة نزع المصداقية عن كل صوت فلسطيني يُظهر جرائمها.

بصل، وهو شخصية مدنية، برز كأحد المصادر الموثوقة في نقل صورة الدمار والضحايا، ما جعله هدفًا لحملة منظمة يقودها الناطق باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي الذي نشر صورته وحرض عليه علنًا.

وقد التقط إعلام التطبيع هذه الإشارات وسارع إلى تبنّيها، ملمحًا إلى أن بصل يتجاوز دوره المهني كمسؤول في الدفاع المدني، ليصبح قياديًا خلف الناطق العسكري لكتائب القسام أبو عبيدة.

وبحسب مراقبين لا يهدف هذا الخطاب إلا إلى تقويض ثقة الرأي العام في مصادر المعلومات الفلسطينية، وخلط المدني بالعسكري في محاولة لتبرير الاستهداف.

من هو محمود بصل؟

الاحتلال الإسرائيلي يعتمد على ثلاثية ثابتة: القتل، الكذب، ثم التبرير. يقتل المدنيين بالجملة، يكذب في تغطية جرائمه، ثم يقدّم ذرائع مكرّرة سرعان ما تُفضح أمام العالم.

لكن المعضلة بالنسبة لتل أبيب أن المجتمع الدولي، خصوصًا المنظمات الحقوقية والصحافة المستقلة، بات أقل قابلية لتصديق هذه الرواية.

هنا يتدخل الإعلام العربي في دول التطبيع ليقدّم للإسرائيليين ما يفتقدونه من شرعية. الإمارات والسعودية تحديدًا برز إعلامهما في إعادة تدوير الأكاذيب الإسرائيلية عبر منصات تلفزيونية وصحفية، محاولة تصوير الأصوات الفلسطينية الموثوقة كجزء من “منظومة دعائية” للمقاومة.

وتمثل هذه الاستراتيجية جسرًا يسعى الاحتلال للعبور منه إلى الرأي العام العربي الذي يظل معظمه متعاطفًا مع الفلسطينيين.

شبكة أفيخاي ويكيبيديا

التركيز على شخصية محمود بصل ليس تفصيلًا عابرًا. فإسرائيل، التي تواجه اتهامات متزايدة بارتكاب إبادة جماعية في غزة، تدرك أن كل صورة أو تصريح صادر عن الدفاع المدني أو الطواقم الطبية يعزز من كلفة سرديتها الزائفة.

لذلك، يصبح الهدف هو تحويل الناطقين الفلسطينيين إلى “خصوم سياسيين أو عسكريين”، بحيث يفقد خطابهم قيمته الإنسانية والحقوقية.

هذا التكتيك الإعلامي هو نفسه الذي استُخدم ضد عشرات الصحفيين بعد قتلهم عبر التحريض عليهم بزعم انتمائهم لفصائل المقاومة والتشكيك في ظروف قتلهم رغم وضوح الأدلة. الجديد اليوم أن بعض وسائل الإعلام العربية أصبحت شريكًا في هذه اللعبة، تُضفي على الاتهامات الإسرائيلية شرعية شكلية عبر منصاتها.

الإعلام كأداة في منظومة التطبيع

ما يحدث ليس مجرد أخطاء مهنية، بل انعكاس لنهج سياسي أوسع. منذ توقيع “اتفاقات أبراهام”، تحوّلت بعض الوسائل الإعلامية في الخليج إلى منصات لإعادة إنتاج الخطاب الإسرائيلي، سواء عبر استضافة محللين إسرائيليين بشكل دائم، أو عبر بث روايات الجيش الإسرائيلي بلا تدقيق.

في السياق الحالي، يظهر بوضوح أن استهداف بصل يمثل امتدادًا لمنظومة تطبيع إعلامي تهدف إلى: تبييض صورة الاحتلال أمام الرأي العام العربي وترويج فكرة أن كل مؤسسات غزة، حتى المدنية منها، جزء من “آلة عسكرية”، وبالتالي تبرير استهدافها إلى جانب خلق حالة من الالتباس تحول دون تشكّل رأي عام عربي موحد ضد الجرائم الإسرائيلية.

يظهر ذلك جليا في وقت العالم الغربي، بما فيه مؤسسات حقوقية وإعلامية، يزداد وعيًا بجرائم الاحتلال ويستخدم مصطلحات مثل “الإبادة الجماعية” و”العقاب الجماعي”. ورغم محاولات تل أبيب الدفاع عن نفسها، إلا أن التغطيات الصحفية المستقلة كشفت زيف معظم رواياتها.

لكن المفارقة أن بعض الإعلام العربي يذهب بعكس هذا الاتجاه: بينما يرفض العالم أكاذيب الاحتلال، يتبنّاها إعلام الإمارات والسعودية ويعيد تسويقها للجمهور العربي. هذه الازدواجية تضعف الموقف الفلسطيني وتخلق ثغرة يستغلها الاحتلال في حربه الدعائية.

وعليه فإن استهداف محمود بصل ليس إلا نموذجًا لكيفية توظيف الإعلام لضرب المصداقية الفلسطينية، وتحويل المدنيين إلى “أهداف مشروعة” تحت ذريعة الانتماء إلى المقاومة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى