تحليلات واراء

بين أوسلو والدوحة: الفروق بين وفدي التفاوض وأثرها على مستقبل الفلسطينيين

ثلاثة عقود تفصل بين الوفد الفلسطيني الذي جلس في أوسلو عام 1993 والوفد التابع لحركة حماس الذي يجلس اليوم في الدوحة وسط فروق جوهرية في تبني الموقف وأثرها على مستقبل الفلسطينيين.

إذ أن ثلاثون عامًا من التجربة المريرة تكشف عن حجم التباين في الوعي والفهم والتدقيق على التفاصيل، ومدى الحرص على مصالح الشعب الفلسطيني.

وإذا كانت أوسلو قد مثّلت بداية الانزلاق إلى كارثة سياسية، فإن المفاوضات الجارية اليوم تظهر محاولة لتفادي الأخطاء القاتلة التي ارتُكبت سابقًا.

اتفاق أوسلو ويكيبيديا

يرى كثير من المحللين، ومنهم المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، أن الذين وقعوا اتفاق أوسلو “يستحقون المحاكمة من الشعب الفلسطيني”، ليس فقط بسبب النتائج الكارثية، بل بسبب السذاجة السياسية التي رافقت التفاوض.

ولخص الكاتب والمحلل السياسي أشرف العجرمي الأمر بالقول إن القيادة الفلسطينية آنذاك بنت استراتيجيتها على “التسوية الدائمة”، التي كان يفترض إنجازها بعد خمس سنوات فقط.

لكن دولة الاحتلال انقلبت على كل شيء، وتنصّلت من الاتفاقيات. الخطأ الأكبر أن المفاوض الفلسطيني لم يكن على وعي كافٍ بـ”العقلية الإسرائيلية”، ولم يُدقق في البنود، فترك ثغرات استغلها الاحتلال لصالحه.

من جهته المؤرخ غسان وشاح عدّد أربع كوارث أساسية خلفتها أوسلو:

الاعتراف بإسرائيل: أوسلو قامت على مبدأ اعتراف منظمة التحرير بحق دولة الاحتلال في الوجود على 78% من أرض فلسطين، مقابل وعد غامض بدولة على ما تبقى. بهذا، تخلّت قيادة السلطة عن السردية التاريخية وأرست نهج المفاوضات كحل وحيد.

إعفاء الاحتلال من المسؤولية: دولة الاحتلال تخلّصت من عبء إدارة شؤون الفلسطينيين، وألقت به على كاهل السلطة الوليدة.

وقد وصف الجنرال الإسرائيلي شلومو غازيت الاتفاق بأنه “استعمار فاخر ومريح”، حيث ظل الاحتلال يسيطر دون أن يتحمل مسؤولية قانونية.

بذور الانقسام: أوسلو لم توحّد الصف الفلسطيني بل عمّقت الشرخ. التوقيع المنفرد من قبل حركة فتح مثّل إدارة ظهر لبقية الفصائل، ما وضع الأساس لانقسام وطني سرعان ما انفجر لاحقاً.

مرحلة انتقالية مفتوحة: الاتفاق حدد خمس سنوات للقضايا الجوهرية مثل القدس واللاجئين والحدود، لكنه لم يتضمن ضمانات أو شروط جزائية على الطرف المعرقل. النتيجة أن دولة الاحتلال فرضت الأمر الواقع بالقوة، بينما بقي الفلسطينيون رهائن وعود سراب.

الوفد المفاوض في الدوحة: وعي ودقة

على النقيض من تجربة أوسلو، يظهر الوفد المفاوض لحركة حماس في الدوحة أكثر تشددًا وحرصًا على التفاصيل. فالخطوط الحمراء واضحة: لا قبول بأي صيغة تُكرّس الاحتلال في غزة، ولا بد من انسحاب كامل مع ضمانات عملية على الأرض.

فالمفاوضون لا يتركون العبارات فضفاضة، بل يدققون في الخرائط والمواقع الميدانية، حتى لا تُعاد مأساة “المراحل الانتقالية” التي لا تنتهي. فهم يرفضون القبول بوجود إسرائيلي عسكري أو أمني مهما كان محدودًا، ويدركون أن أي ثغرة ستتحول لاحقًا إلى قاعدة للاحتلال.

ويعكس هذا الوعي إدراكًا عميقًا للعقلية الإسرائيلية، التي أثبتت أنها تستخدم الوقت والمفاوضات أداة للتوسع لا للتنازل. ولذلك، لا يُبنى على حسن النوايا، بل على ضمانات مكتوبة ومُحددة، مع متابعة دقيقة للتنفيذ.

الفروق الجوهرية بين الوفدين

المصلحة العليا: في أوسلو، غلبت حسابات الشرعية الدولية والبحث عن “إنجاز سياسي سريع”، حتى لو كان على حساب المصلحة الوطنية.

في الدوحة، يصر وفد حماس على أن الأولوية هي لمصلحة الفلسطينيين على الأرض: إنهاء الاحتلال وضمان حق الناس في العيش بحرية داخل قطاعهم.

التدقيق في التفاصيل: مفاوضو أوسلو تركوا بنودًا مفتوحة وتفسيرات غامضة، مثل “المرحلة الانتقالية” و”القضايا النهائية”، ما سمح لإسرائيل بالتلاعب.

وفد حماس يراجع الخرائط والمواقع بندًا بندًا، ويرفض أي صياغات فضفاضة. التفاصيل هنا ليست ترفًا بل صمام أمان.

الوعي بالعقلية الإسرائيلية: في التسعينيات، لم يكن لدى الوفد الفلسطيني خبرة كافية بالتكتيكات الإسرائيلية، فوقع في فخ الثقة الزائدة.

اليوم، هناك إدراك أن دولة الاحتلال لا تلتزم إلا بما يخدمها، وأن كل بند يحتاج إلى آلية تنفيذ وضمانات دولية حقيقية.

الشرعية الشعبية: أوسلو وُقّعت بعيدًا عن التوافق الوطني، مما عمّق الانقسام وأضعف الموقف الفلسطيني.

وفد الدوحة يستند إلى دعم شعبي واسع في غزة وتنسيق وتكامل مع كافة فصائل المقاومة، وإلى خطاب مقاوم يرى أن التنازل خط أحمر.

وفد حماس المفاوض

من أبرز دروس أوسلو أن التنازل المبدئي يقود إلى تنازلات أكبر. فبمجرد اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل دون مقابل ملموس، فُتح الباب أمام الاحتلال ليُصعّد الاستيطان ويتهرب من التزاماته. كذلك، أثبتت التجربة أن الغموض في النصوص أخطر من الهزيمة في المعركة، لأن الاحتلال يوظفها لإدامة سيطرته.

لذلك، يُصر وفد حماس على أن أي اتفاق يجب أن يكون محكمًا، ومبنيًا على موازين قوة حقيقية، لا على وعود دولية فارغة. وهو موقف يُكسبه احترامًا شعبيًا، لكنه يضعه في مواجهة ضغوط هائلة من القوى الدولية والإقليمية.

وإذا كان وفد أوسلو قد ذهب بحثًا عن دولة فلسطينية مستقلة فعاد بسلطة محدودة الصلاحيات وباحتلال أعمق، فإن وفد الدوحة يسعى إلى تثبيت قواعد جديدة تمنع تكرار التجربة. التحدي الأكبر يكمن في قدرة الفلسطينيين على تحويل الوعي إلى إنجاز سياسي، وسط بيئة إقليمية ودولية معقدة.

المقارنة بين الوفدين ليست مجرد تقييم تاريخي، بل هي درس عملي:

التنازل عن المبادئ يفتح الطريق أمام الكوارث.

التدقيق على كل صغيرة وكبيرة هو الضمانة الوحيدة لعدم تكرار الأخطاء.

وحدة الموقف الفلسطيني ضرورة ملحة، لأن أي انقسام يتحول فورًا إلى فرصة للاحتلال.

في النهاية، يمكن القول إن أوسلو كانت بداية انهيار المشروع الوطني، بينما المفاوضات في الدوحة تمثل محاولة لإعادة بناء الوعي الفلسطيني على قاعدة المقاومة والصمود. والنجاح هنا لن يقاس بعدد الأوراق الموقعة، بل بمدى حماية الأرض والشعب من مشاريع الاحتلال، وضمان أن دماء الشهداء لم تُسفك عبثًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى