تحليلات واراء

بين “ماراثون روابي” و”ماراثون الدم” في غزة.. السلطة كأداة فصل وتصفية

في الوقت الذي تحتفى مدينة روابي شمال رام الله بتنظيم ماراثون رياضي بمشاركة مئات العدّائين، تواصل غزة تسجيل أرقام “ماراثونية” من نوع آخر: عشرات آلاف الشهداء والمصابين والمفقودين، وموجات نزوح متكررة تحت القصف الإسرائيلي الذي لم يتوقف منذ عامين تقريباً.

وتختصر هذه المفارقة الدراماتيكية بين الضفة الغربية وغزة جوهر الأزمة الفلسطينية الراهنة، حيث تستمر الحياة في الضفة بملامحها الاعتيادية رغم شلال الدم النازف في القطاع المحاصر.

وقد ينتهي الماراثون في روابي المقرر يوم الجمعة المقبل بمسار مخصص لكل فئة عمرية، عند خط النهاية وسط تصفيق المشاركين، لكن ماراثون غزة الدامي لا خط نهاية له حتى الآن. فكل يوم يضيف أرقاماً جديدة من الشهداء والمصابين والمشردين.

وبينما يستمر شلال الدم في القطاع، تواصل الضفة العيش في إيقاعها الاعتيادي، وكأن المصير ليس واحداً في مفارقة قاتلة تتجلى بان تجاهل غزة اليوم يعني دفع الثمن غداً في الضفة، حيث لن يتردد الاحتلال في استكمال مخططه الاستيطاني والسيادي.

مدينة روابي ويكيبيديا

الماراثون في روابي، الذي يعرض على أنه احتفاء بالحياة والرياضة والانفتاح، بدا لكثير من الفلسطينيين خارج غزة وكأنه حدث طبيعي في مدينة تسعى إلى تجسيد “الحلم العصري” وسط واقع الاحتلال.

لكنه في نظر الغزيين ومناصريهم، كان رمزاً فجاً للفصل القائم بين شطرَي الوطن: في حين تحوّل القطاع إلى مقبرة جماعية، يظهر في الضفة إصرار على تطبيع الحياة اليومية وكأن الكارثة الكبرى لا تعني سوى جزء من الشعب.

فغزة، التي تمر بواحدة من أكثر المراحل دموية في تاريخها، لم تعرف سوى “الماراثونات القسرية”: نزوح العائلات من بيت إلى آخر ومن حي إلى آخر، مرات عديدة، بحثاً عن ملاذ مؤقت من القصف.

أما الضفة، فتواصل نشاطاتها المدنية تحت إشراف سلطة فلسطينية تبدو حريصة على إبقاء الحدود النفسية والسياسية قائمة مع ما يحدث في القطاع.

وهذا الانفصام لم يكن وليد اللحظة. فمنذ سنوات، تتعرض العلاقة بين الضفة وغزة إلى عملية فصل ممنهجة، سياسياً وأمنياً واقتصادياً.

وفي ذروة حرب الإبادة في غزة، بدلاً من أن يتصاعد الحراك الشعبي في الضفة ليشكل ضغطاً على الاحتلال، بدا أن السلطة الفلسطينية تعمل بوعي على إبقاء الشارع هادئاً.

ولا يمر يوم في غزة إلا وتُسجل فيه أرقام صادمة لضحايا القصف: آلاف الأطفال، مئات العائلات التي أُبيدت بالكامل، وخراب مدن بأكملها. ومع ذلك، لا نجد في الضفة سوى احتجاجات محدودة وسرعان ما تُطوقها الأجهزة الأمنية الفلسطينية. والنتيجة: غياب زخم شعبي يُوازي حجم المأساة ويشكّل رادعاً لإسرائيل.

حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة

يؤكد مراقبون أن تجاهل ما يجري في غزة، وعدم تصعيد الحراك المقاوم في الضفة، يشكل وصفة أكيدة لانزلاق الأمور إلى تصعيد إسرائيلي أكبر.

فغياب الضغط الميداني في الضفة يترك دولة الاحتلال مطمئنة إلى أن عملياتها في غزة لن تواجه تحدياً جدياً في الجبهة الأخرى. ومع شعور قادة الاحتلال بغياب تكلفة سياسية أو أمنية إضافية، فإنهم سيستمرون في رفع سقف الهجوم وربما ينقلون عملياتهم إلى الضفة لاحقاً.

المعادلة هنا واضحة: غزة تُستنزف حتى الرمق الأخير، بينما الضفة تُحيد قسراً، في انتظار دورها القادم، ودولة الاحتلال لا تُخفي أن مشروعها الاستراتيجي يقوم على إخضاع كامل الأراضي الفلسطينية، والسيطرة التدريجية على الضفة الغربية عبر الاستيطان المكثف وفرض السيادة الكاملة.

السلطة الفلسطينية كأداة فصل

من الواضح أن السلطة في رام الله باتت تلعب دوراً محورياً في هذه المعادلة. فهي لا تكتفي بإدارة الضفة بمعزل عن غزة، بل تساهم عملياً في تفكيك التضامن الوطني عبر قمع أي تحرك شعبي يمكن أن يربط الضفة بمصير القطاع.

ويتوافق هذا السلوك موضوعياً مع أهداف دولة الاحتلال التي تعمل على ترسيخ الانقسام الفلسطيني وإضعاف أي إمكانية لمواجهة موحدة.

وتتحدث التقارير الإسرائيلية صراحة عن أن نجاح حكومة اليمين المتطرف في فرض سيادتها الكاملة على الضفة يحتاج إلى استمرار هذا الفصل، بحيث تصبح غزة معزولة تماماً وتُترك لمصيرها.

ومع مرور الوقت، يغدو إعلان السيادة الإسرائيلية على الضفة مجرد تحصيل حاصل، وسط انشغال الفلسطينيين بالبحث عن لقمة العيش أو بالمهرجانات الرياضية.

والملاحظ أن السلطة الفلسطينية تكرر خطابها المعتاد عن “التضامن مع غزة” و”ضرورة وقف الحرب”، لكن الواقع على الأرض يقول عكس ذلك.

وهنا تثار التساؤلات حول قيمة التصريحات السياسية إذا كانت الأجهزة الأمنية تعتقل شباناً تظاهروا نصرة لغزة؟ وما جدوى بيانات الشجب إذا كانت الأنشطة الرسمية تركز على مشاريع اقتصادية وترفيهية مثل الماراثونات بدلاً من خلق بيئة مقاومة للاحتلال؟

وبحسب المراقبين يعكس هذا الانفصام بين الخطاب والممارسة عمق الأزمة: سلطة تخشى فقدان امتيازاتها ومكانتها أكثر مما تخشى على دماء أهل غزة. والنتيجة أن الشعب الفلسطيني يُترك وحيداً في مواجهة واحدة من أعتى آلات الحرب في العالم.

كما أن المفارقة بين “ماراثون الحياة” في الضفة و”ماراثون الدم” في غزة ليست مجرد صورة إعلامية، بل هي مؤشر على شرخ اجتماعي خطير.

فشباب غزة الذين يفقدون بيوتهم وأسرهم يرون في أقرانهم في الضفة جيلاً يلهث خلف فرص عمل محدودة أو أنشطة رياضية لا تعني شيئاً أمام مأساة كبرى. وهذا يعمّق الإحساس بالخذلان ويضعف النسيج الوطني الجامع.

إقليمياً، تسعى دولة الاحتلال لاستثمار هذا الواقع لإقناع العالم بأن القضية الفلسطينية لم تعد موحدة، وأن ما يجري في غزة شأن محلي يمكن عزله عن السياق الأوسع. وفي ظل استمرار هذا الفصل، تصبح الضفة مهيأة أكثر فأكثر لابتلاعها عبر مشاريع الضم الزاحف.

ويشدد المراقبون على أنه إذا لم تُدرك السلطة الفلسطينية أن دورها في إطفاء جذوة الغضب الشعبي يخدم مشروع اليمين المتطرف الإسرائيلي، فإنها ستكون شريكة في إعلان السيادة الإسرائيلية الكاملة على الضفة، وهو ما قد يتحقق أسرع مما يتوقع كثيرون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى