مؤسسة “المجد أوروبا” ودورها في ملف التهجير: ذراع دعائية لشرعنة مشروع الاحتلال

منذ اللحظة التي أعلن فيها وزير جيش الاحتلال الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، في فبراير/شباط 2025 عن إنشاء “مديرية للمغادرة الطوعية لسكان غزة” داخل وزارة الجيش، بات واضحًا أن ملف التهجير لم يعد مجرد فكرة مطروحة في أروقة مراكز التفكير أو تسريب صحفي عابر، بل تحول إلى سياسة رسمية يجري إعداد أدواتها الميدانية والإجرائية. ضمن هذا المسار، برز اسم مؤسسة جديدة وغامضة تحمل عنوانًا إنسانيًا هو: “المجد أوروبا”.
هذه المؤسسة التي لم يسمع عنها أحد قبل أشهر قليلة، ظهرت فجأة كفاعل “إغاثي” مزعوم يطرح نفسه على الفلسطينيين كوسيط لتسهيل إجراءات “السفر” و”العلاج”، لكنها في الحقيقة تقدم واجهة دعائية متكاملة تتقاطع مع خطة الاحتلال لإعادة إنتاج مشروع التهجير القسري تحت غطاء “المغادرة الطوعية”.
مؤسسة المجد أوروبا ويكيبيديا
تقدم المؤسسة نفسها عبر موقعها الرسمي (almajdeurope.org) كمنظمة إنسانية تأسست في ألمانيا عام 2010، وتزعم أنها تعمل على تقديم المساعدات للمجتمعات المسلمة في مناطق النزاع. لكن التدقيق في طبيعة عملها يكشف تناقضات فجّة:
الواجهة الإنجليزية للموقع تركز على سرديات دعائية عامة، تتحدث عن مساعدات في تركيا وسوريا وغزة، مع صور تعبيرية يُرجح أنها مولّدة بالذكاء الاصطناعي، وتخصص نافذة لجمع التبرعات تبدأ من 50 دولارًا وصولًا إلى 1500 دولار، وهو الرقم الذي تقدمه المؤسسة باعتباره “كلفة تغطية نفقات سفر وتأشيرة لفرد واحد”.
الواجهة العربية، التي لا يصل إليها المستخدم إلا عبر رابط مباشر للتسجيل، هي أكثر تحديدًا: تسجيل بيانات، وشرح آلية مغادرة غزة، وأسئلة شائعة باللهجة الفلسطينية الدارجة. هنا يتضح جوهر النشاط: تسهيل “الهجرة” وليس تقديم الغذاء أو العلاج.
غياب أي حضور للمؤسسة على وسائل التواصل الاجتماعي، وافتقارها إلى تاريخ إغاثي معروف، يكشف أنها واجهة طارئة لا تحمل مقومات المؤسسات الإنسانية الحقيقية.
أسلوب استخباري مفضوح
يقدم موقع المؤسسة شخصيتين فقط كممثلين لها: “عدنان” و”معاذ”. الأول يُعرّف بأنه منسق مشاريع القدس المحتلة، والثاني مدير مشاريع غزة.
لكن التعريفات مقتضبة وغامضة، واللافت أن أرقام الاتصال المرتبطة بهما تتضمن شرائح إسرائيلية وفلسطينية، ما يزيد الشكوك حول تبعية المؤسسة لأجهزة استخبارات الاحتلال.
وتشبه طريقة العرض في موقع المؤسسة إلى حد بعيد أسلوب عمل “الشاباك” الإسرائيلي في عمليات “التواصل المباشر”، حيث تُستخدم أسماء أولية وأرقام محلية لتسهيل جمع المعلومات وتوجيه الجمهور نحو مسارات محددة. وهو ما يعزز الانطباع أن “المجد أوروبا” ليست سوى أداة تشغيل دعائية وأمنية ضمن مشروع التهجير.
السفر كغطاء للتهجير
وضعت المؤسسة سلسلة من الشروط والآليات التي تكشف طبيعة دورها:
الأوراق الثبوتية: الخدمة محصورة بحاملي جواز السفر الفلسطيني الساري. هذه النقطة وحدها تُقصي غالبية سكان غزة، الذين لا يملكون جوازات سارية، مما يجعل العملية برمتها محدودة التأثير ومكرسة لفئة ضيقة.
وجهة السفر: لا تُفصح المؤسسة عن الدول المستقبلة مسبقًا، بل تترك الأمر للمراسلات الفردية. هذا التكتم يتماشى مع رغبة الاحتلال في إخفاء الوجهات الحقيقية ومنع تبلور معارضة علنية في الدول المضيفة.
المسارات: تعتمد بشكل رئيس على مطار رامون في جنوب فلسطين المحتلة، بإشراف مباشر من الجيش الإسرائيلي، مع بدائل محدودة عبر الأردن للحالات الإنسانية. ما يعني أن الاحتلال هو الجهة الوحيدة التي تتحكم بقرار الخروج ومراحله.
القيود: المسافر مسموح له بحقيبة ظهر واحدة، ومبلغ مالي لا يتجاوز 8 آلاف شيكل، في تكرار لنفس شروط الاحتلال على معبر كرم أبو سالم. هذه الإجراءات لا تختلف عن تلك التي يفرضها الاحتلال في عمليات “الإخلاء” المنظمة.
التكلفة: المؤسسة تفرض مبالغ غير محددة بدقة وتصفها بأنها “معقولة”، لكنها لا تقدم أي التزام لاحق تجاه الإقامة أو فرص العمل أو التوطين. بمجرد هبوط الطائرة في البلد المضيف، يصبح الفرد في مواجهة مصيره.
ومن خلال هذه الشروط، يتضح أن “المجد أوروبا” ليست مؤسسة إغاثية بقدر ما هي ذراع تنفيذية في مشروع الاحتلال للتهجير. فهي تقوم بالمهام التالية:
إقناع الفلسطينيين بأن هناك خيارًا “إنسانيًا” للهجرة، بدلًا من تصويره كخطة قسرية.
جمع البيانات الشخصية للراغبين بالسفر، وهو ما قد يوفر للاحتلال قاعدة معلومات حساسة عن شرائح سكانية محددة.
تنظيم الإخراج الميداني لمجموعات صغيرة تحت إشراف الجيش الإسرائيلي، بما يتيح للاحتلال اختبار المسارات اللوجستية قبل توسيعها.
التناقضات والإخفاقات
رغم الجهد الدعائي، تكشف الوقائع الميدانية إخفاقات جوهرية:
منذ بدء نشاطها لم تنجح المؤسسة سوى في إخراج دفعة واحدة من نحو 300 شخص إلى إندونيسيا، وهو رقم ضئيل مقارنة بخطط الاحتلال التي تتحدث عن تهجير مليون شخص خلال عام واحد.
لا تقدم المؤسسة أي حلول للغالبية الساحقة ممن لا يحملون جواز سفر ساريًا، ما يجعلها عاجزة عن مخاطبة الكتلة الأكبر من السكان.
تتنصل تمامًا من أي مسؤوليات مستقبلية في الدول المضيفة، تاركة المهاجرين عرضة للفقر والتشرد، ما يفضح الطابع التجريبي والوظيفي لنشاطها.
وعليه فإن ما تفعله “المجد أوروبا” يتقاطع تمامًا مع ما أعلنه كاتس: إنشاء مديرية داخل وزارة الجيش لمتابعة “المغادرة الطوعية”. هذه المديرية تتعامل مع الملف بصفته مهمة استراتيجية وليست مبادرة إنسانية. وبذلك تصبح المؤسسة واجهة “مدنية” تتيح للاحتلال العمل تحت غطاء قانوني وإغاثي زائف، بينما الهدف الحقيقي هو تفريغ غزة من سكانها.
كما يتضح أن “المجد أوروبا” ليست سوى واجهة وهمية مرتبطة بمخطط إسرائيلي أكبر لشرعنة التهجير. فهي تستخدم لغة إنسانية زائفة، وصورًا مُصطنعة، وشخصيات غامضة، لتقديم خدمة وحيدة: إخراج الفلسطينيين من غزة عبر قنوات خاضعة لسيطرة الاحتلال.
لكن فشلها في تحقيق نتائج ملموسة حتى الآن يكشف عن عقبات بنيوية تواجه مشروع التهجير: تعقيدات قانونية، رفض شعبي فلسطيني واسع، صعوبات لوجستية، واعتراضات محتملة من الدول المضيفة.