معالجات اخبارية

بوابة عبور أم فساد وإذلال؟ أزمة الجسر تكشف عمق اختلال الحكم في الضفة

لم يعد جسر الملك حسين (معبر الكرامة) مجرّد ممرّ حدودي يربط الفلسطينيين بالعالم الخارجي عبر الأردن؛ بل تحوّل إلى مرآة كاشفة لأزمات أعمق تتجاوز الازدحام والبيروقراطية وتؤكد عمق اختلال الحكم في الضفة الغربية المحتلة.

ففي كل مرة تُثار فيها أزمة على الجسر، تطفو على السطح اتهامات الفساد، وبيع النفوذ، والسوق السوداء، وابتزاز المسافرين، لتعيد طرح السؤال الجوهري: هل مشكلة الجسر إدارية أم هي تجلٍّ لانهيار أوسع يطال البنية السياسية والاجتماعية في الضفة؟.

في الساعات الأخيرة أعلنت وزارة الداخلية الفلسطينية تلقيها شكاوى جديدة تتعلق بقيام جهات غير رسمية ببيع تذاكر المواصلات للمسافرين عبر الجسر بأسعار تفوق السعر الرسمي.

والأزمة لم تتوقف عند الشكاوى، إذ تسببت بفوضى خانقة وازدحام غير مسبوق، في مشهد يتكرر كل موسم دون حلول جذرية.

سوق سوداء على أبواب الوطن

يقول أحد المسافرين، فضل عدم ذكر اسمه “صار الجسر سوقًا سوداء. ناس بتبيع تذاكر بأسعار مضاعفة، وكأننا في مزاد علني على حقنا في السفر”.

ويضيف بغضب: “صرنا نتكيف مع أي مذلّة بدون نقاش. إذا مش قادر تدفع، بتضلك محشور ساعات أو أيام، بينما اللي بيدفع بيمشي بسرعة”.

في مجموعات “واتساب” وفيسبوك المخصصة لمتابعة أخبار الجسر، يتداول الفلسطينيون أسماء تجّار وسماسرة صاروا أشبه بشبكة منظمة تبيع تذاكر وتحصّل أرباحًا طائلة.

المضحك المبكي، كما يصف بعضهم، أن هؤلاء يُشتمون في المنشورات صباحًا، ويُهرع الناس إليهم مساءً لإنهاء إجراءات سفرهم. إنها حلقة إذلال تبدو بلا نهاية.

تطويرات شكلية لا تعالج أصل المشكلة

لطالما كرر مسئولو السلطة الفلسطينية وعود إجراء أعمال تطوير وتوسعة جارية في قاعات المغادرين والقادمين من معبر الكرامة وأن المسافرين سيلمسون خلال الأشهر المقبلة فرقًا ملموسًا.

لكن هذه الوعود، في نظر كثيرين، لا تمس أصل الأزمة. فالمشكلة لا تتعلق فقط بقاعات الانتظار أو المنصة الإلكترونية لشراء التذاكر، بل تكمن في البنية السياسية والأمنية التي جعلت من حياة الفلسطيني تحت رحمة الاحتلال، والوسطاء، والفساد الإداري.

كما يلفت إياد الكردي، صاحب شركة سياحة وسفر، إلى العقبة الأساسية: الاحتلال الإسرائيلي. ويقول إن “أزمة الجسر تراكمية، لكنها في جوهرها فنية وسياسية. الاحتلال يتعمد إبطاء إجراءات التدقيق على الحافلات، ولا يسمح بفحص أكثر من حافلة واحدة في آن. ساعات العمل محدودة، والسلطة الفلسطينية لا تملك أي تأثير على قرارات الاحتلال”.

الجسر انعكاس لحالة أوسع من الانكسار

هنا تكمن النقطة الجوهرية. أزمة الجسر ليست إدارية بحتة، بل هي جزء من أزمة أكبر تعيشها الضفة الغربية، حيث يُقتل الفلسطيني في بيته، يُحاصر في رزقه، وتُستباح كرامته، بينما يغيب رد الفعل الشعبي أو يظل محصورًا في شكاوى على مواقع التواصل.

يقول ناشط شبابي “من يوم ما الفلسطيني توقف عن القتال والنضال من أجل كرامته، تمّت استباحته بالكامل. الاحتلال يستبيح الأرض، والسماسرة يستبيحون الجيب والكرامة. والسلطة تتفرج أو تدير الأزمة بأسوأ الطرق”.

الأكثر إيلامًا أن حالة التأقلم مع المهانة باتت شبه طبيعية. لا مظاهرات حاشدة تُطالب بحلول حقيقية، ولا حراك شعبي يفرض على السلطة اتخاذ إجراءات صارمة. حتى غضب الناس ينتهي غالبًا بمنشور غاضب أو شتائم عابرة في مجموعات “الجسر”.

سلطة غائبة أم متواطئة؟

يتساءل كثيرون عن دور السلطة الفلسطينية. لماذا تعجز عن ضبط هؤلاء السماسرة؟ لماذا لا تُعلن قائمة رسمية بأسعار الخدمات وتحاسب المخالفين؟ يقول أحد المسافرين: “مش فاهم السلطة شو دورها؟ ليش موجودة أصلاً؟ إذا مش قادرة تحمي الناس من سماسرة الجسر، تروح أحسن”.

الحقيقة أن صلاحيات السلطة على الجسر محدودة سياسيًا وأمنيًا. لكن في الوقت نفسه، لا يمكن إعفاءها من المسؤولية بالكامل. فهناك شبهات بتورط موظفين رسميين أو غضّ طرفهم عن هذه السوق السوداء. ويُجمع مسافرون على أن بعض “السماسرة” لا يمكنهم العمل بهذه الأريحية لولا وجود تواطؤ أو تغاضٍ من أطراف نافذة.

الإذلال اليومي وتآكل الثقة

الجسر، في النهاية، ليس مجرد معبر حدودي. إنه اختبار يومي لصبر الفلسطيني وكرامته. إنه المكان الذي تتجسد فيه كل مظاهر الاحتلال، والفشل الإداري، والفساد، والإذلال، في مساحة لا تتجاوز بضعة كيلومترات.

يتحدّث الناس عن توسيع القاعات وتركيب تكنولوجيا جديدة، لكن ما يحتاجه الفلسطيني أبسط وأعمق: معبر مفتوح بلا إذلال ولا ابتزاز ولا قيود تعسفية، وسلطة قادرة على حماية الناس لا على إدارة أزماتهم فقط.

وحتى إشعار آخر، سيظل جسر الكرامة بوابة عبور محمّلة بالوجع، ومرآة تعكس مأساة الفلسطيني بين احتلال لا يرحم، وفساد لا يشبع، وسلطة غائبة أو عاجزة عن حماية شعبها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى