تحليلات واراء

التطبيع بأقنعته المختلفة… من البوابة الأكاديمية إلى تبييض الاحتلال

في الوقت الذي يواجه فيه الفلسطينيون في غزة أهوال المجاعة والحصار والقتل الممنهج، تكشف تقارير إعلامية عن مسارات تستهدف التطبيع بأقنعته المختلفة تسير عكس التيار الشعبي والسياسي المعلن.

أحدث هذه المسارات جاء من إندونيسيا، التي رغم دعمها الواسع لفلسطين على المستوى الشعبي والدبلوماسي، سمحت بتدفق طلابها إلى مؤسسات إسرائيلية تحت غطاء “برامج تدريب زراعي”.

هذا التناقض الفج بين رفع الأعلام الفلسطينية في شوارع جاكرتا وبين إرسال طلاب إلى دولة الاحتلال، يطرح أسئلة جوهرية حول معنى التضامن وحول خطورة جميع أشكال التطبيع، سواء جاءت عبر صفقات اقتصادية أو شراكات أكاديمية أو زيارات ثقافية.

بوابة أكاديمية للتطبيع

في يوليو/تموز الماضي، غادرت مجموعة جديدة من طلاب الزراعة الإندونيسيين إلى دولة الاحتلال للمشاركة في برنامج تدريبي في مركز أرافا الدولي للتدريب الزراعي (AICAT).

هذه الخطوة ليست حدثًا معزولًا، بل جزء من اتفاقية أُبرمت عام 2014 بين رجل الأعمال الإندونيسي–الصيني أغوس سوهرمان والمؤسسة الإسرائيلية. وقد بلغ عدد الطلاب المشاركين هذا العام نحو مئة.

يدخل هؤلاء بتأشيرات إسرائيلية، يعيشون ويعملون على أرض احتلال، فيما يعيش الفلسطينيون على بعد كيلومترات قليلة تحت القصف والجوع. كيف يمكن لإندونيسيا أن تبرر دعمها السياسي لفلسطين في المحافل الدولية بينما تُرسِل أبناءها للتدريب في مؤسسات الدولة نفسها التي تُمعن في قتل وتشريد الفلسطينيين؟

التناقض الفاضح: مساعدات في النهار وتطبيع في الليل

لا شك أن إندونيسيا قدمت الكثير للشعب الفلسطيني: مساعدات إنسانية، قوافل غذائية، وبيانات إدانة متكررة. فقد أعلن وزير الخارجية عن إرسال 10 آلاف طن إضافية من الأرز، بالإضافة إلى مشاريع زراعية طويلة الأمد لدعم الفلسطينيين.

لكن هذه المساعدات – مهما بلغت – لا يمكن أن تعوّض الأثر المدمر لخطوة سياسية واحدة تعطي شرعية لإسرائيل. فلا يمكن الجمع بين إدانة نظام الفصل العنصري والمشاركة في مؤسساته الأكاديمية.

ولا يمكن رفع العلم الفلسطيني في جاكرتا بينما يُرفع علم دولة الاحتلال في حقول العربة تحت أعين طلاب إندونيسيين.

التطبيع ليس محايدًا

يروج البعض أن البرامج الأكاديمية “غير سياسية”، وأن الطلاب هناك فقط لتعلم تقنيات الزراعة. لكن هذا التبرير واهٍ؛ فالزراعة الإسرائيلية نفسها قائمة على أراضٍ مسلوبة ومياه منهوبة واقتصاد قائم على الاحتلال.

حين يسقي الطلاب محاصيلهم في صحراء النقب، فإنهم – بشكل غير مباشر – يشاركون في تبييض صورة دولة الاحتلال وتقديمها كدولة علم وتكنولوجيا، بينما المزارع الفلسطيني يُحرم من أرضه ويُقصف بستانه. هذا ليس تعليمًا محايدًا بل أداة دعائية لتطبيع صورة دولة محتلة.

التطبيع كعملية بطيئة

التطبيع لا يبدأ بفتح سفارة رسمية، بل يتسلل عبر الثغرات: برامج تدريب، اتفاقيات تجارية، أو تعاون أكاديمي. يبدأ بمبررات “عملية”، ثم يتحول إلى اعتياد، ومع مرور الوقت يتآكل الغضب الشعبي ويتراجع المبدأ الأخلاقي.

هذا ما يحدث اليوم: مسار تدريجي يجعل من مشاركة طالب واحد شهادة بأن حتى أشد الدول انتقادًا لإسرائيل مستعدة للتعاون معها إذا تعلق الأمر بمصلحة آنية.

وإذا كان الهدف هو التعلم الزراعي، فهناك عشرات الدول التي تقدم خبرات متقدمة دون المساس بالمبادئ: اليابان، كوريا الجنوبية، تركيا، الهند، البرازيل. لماذا إذن اختيار دولة الاحتلال تحديدًا؟ الجواب يكمن في شبكة معقدة من المصالح الاقتصادية والضغوط السياسية، لكنها في النهاية مقايضة أخلاقية مكشوفة.

مهاجمة كل أشكال التطبيع

القضية الفلسطينية لا تحتاج إلى شعارات جوفاء أو مساعدات موسمية بقدر ما تحتاج إلى موقف صلب ضد التطبيع. فكل عقد اقتصادي مع دولة الاحتلال، كل مباراة رياضية معها، كل تعاون أكاديمي، وكل زيارة سياحية، ليست سوى طعنة في ظهر الفلسطينيين.

التطبيع في أي صورة هو منح شرعية لدولة تستمر في قتل المدنيين وقصف المستشفيات وتشريد العائلات. وهو يُفقد أي خطاب تضامني مصداقيته، سواء أتى من إندونيسيا أو من غيرها.

وعلى القادة الإندونيسيين أن يحسموا موقفهم: هل فلسطين قضية مبدئية تستحق التضحيات، أم مجرد ورقة سياسية ترفع في الأمم المتحدة؟ هل الاحتلال جريمة مطلقة، أم منطقة رمادية يمكن التحايل عليها بالزيارات الأكاديمية؟

لا يكفي التنديد العلني وإرسال الأرز، بينما يُسمح بتدفق الطلاب إلى مؤسسات الاحتلال. التضامن الحقيقي ليس صدقة، بل تضحية: رفض كل أشكال التطبيع، مهما كانت المغريات.

وإن التطبيع ليس خيارًا بريئًا بل أداة لتبييض الاحتلال. ومن خلال برامج أكاديمية أو اقتصادية أو ثقافية، تسعى إسرائيل إلى كسر عزلتها وتحويل الجريمة إلى أمر عادي. على إندونيسيا – وجميع الدول التي تدّعي دعم فلسطين – أن تدرك أن إرسال طالب واحد إلى دولة الاحتلال قد يساوي تدمير كل ما تبنيه من دعم إنساني أو سياسي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى