الرئيس الوقائي

بقلم يسري فودة
أي رئيس يقول إنه يريد “دولة واحدة غير مسلحة” بينما أرضه كلها وشعبه كله تحت احتلال دموي عنصري إرهابي حتى في ظل اتفاق لما يوصف بالسلام؟
أي رئيس يصف ما يحدث بحق شعبه بأنه “كارثة إنسانية” وكأن الأمر قضاء وقدر أو جملة إنشائية بلا فاعل؟
أي رئيس يذكر على استحياء عبارة “جرائم حرب” كأن الأمر حرب تقليدية بين جيشين بينما يتعرض شعبه الأعزل لإبادة جماعية بشهادة المختصين دوليًا والمجتمع الدولي ومئات الملايين من البشر حول العالم؟
أي رئيس يبلغ به الخبل حدًا يتجاوز به مشاهد الإبادة اليومية الحاضرة نحو إثبات المزيد من الخضوع والخنوع للفاعل في المستقبل من خلال “أجندة إصلاح شاملة تعزز الحوكمة والشفافية وسيادة القانون وتشمل إصلاح النظام المالي والمناهج التعليمية”؟
أي رئيس يجد وقتًا وصفاقةً لتهنئة الي@ود ب “سنة طيبة بمناسبة رأس السنة العبرية” بينما لا يجد وقتًا للتعاطف مع من كان يكسر صيامه في رمضان بحفنة من تراب معجون بدماء شعبه، أو للتكرم بكلمة مواساة لطفل فقد عائلته كلها في قصفة واحدة؟
أي رئيس لا يجد نصف دقيقة من وقته كي يذكر حصيلة القتلى حتى الآن من الأطفال والنساء والرجال والشيوخ العزّل والصحفيين والأطباء وغيرهم، ناهيك عن عشرات الآلاف من صور الإبادة والخراب المتعمد الممنهج التي كان يمكن أن يعرض للعالم جانبًا منها أثناء كلمته عبر الأمم المتحدة؟
أي رئيس؟! هذا هو “الرئيس” الوقائي محمود رضا شحادة عباس الذي هيأ له عدوه ظروف خلافة عرفات بعد اقتناع عدوه هذا بأن رغبته في الحكم أقوى من رغبته في الوقوف أمام ذلك العدو.
عندما زرت رام الله في أواسط التسعينات كان هو قد فرغ مما سُمي “ورقة بيلين-أبو مازن” بعد محادثاته مع المثقف اليساري الص@يوني متعدد الأوجه يوسي بيلين الذي كان وقتها وزيرًا للاقتصاد والتخطيط في حكومة شمعون بيريس.
بُنيت الورقة على أساس اتفاق أوسلو الموقع قبلها بعامين وكان قد بدأ تفعيله على أرض الواقع. في هذا الإطار فُرض على السلطة الناشئة استحداث جهاز أمني جديد اسمه “جهاز الأمن الوقائي”، مهمته الأولى فعليًا التنسيق المكثف مع الجانب الآخر للوقاية من أي تهديد لأمن هذا الطرف الآخر، وهو ما وضع السلطة في مواجهات مؤسفة متكررة مع من رفضوا اتفاق أوسلو وآمنوا بضرورة استمرار مقاومة المحتل.
اختير لرئاسة هذا الجهاز في الضفة جبريل الرجوب، ولرئاسته في غزة محمد دحلان بعد أن اجتمع هذان سرًا بكل من ياكوف بيري، مدير الشين بيت (الاستخبارات الداخلية الإس.رIئيلية)، وأمنون شاحاك، نائب رئيس هيئة العمليات في الجيش.
بينما كنت أستعد للتصوير أُبلغت أني مدعو إلى عشاء مع أحد كبار المسؤولين. في المساء توجهت إلى المطعم المسمى مع أحد الزملاء. بعد قليل وصل السيد جبريل الرجوب.
سألني أول ما سأل: “هل تجمعك صلة قرابة بفرج فوده؟” سمعت هذا السؤال كثيرًا قبل ذلك، لكن له هذه المرة وقعًا مختلفًا. هذه المرة كان سؤالًا أمنيًا يهدف إلى تصنيف مبكر.
كنت أعلم جانبًا من تاريخه في النضال الذي بدأ مبكرًا عندما ساعد جانبًا من جنود مصر في غزة بعد النكسة، وأنه ذاق ويلات السجن في معتقلات العدو مرات عديدة. لكن الأمر الآن مختلف إلى حد أن مهمته الوظيفية الأولى صارت مراقبة شعبه من أجل أمن عدوه الذي اعتقله وأمن من سمح لهم عدوه بسلطة تنفيذية تفتقر واقعيًا إلى أدنى مقومات السيادة.
على تاريخه النضالي المشرف سابقًا، اصطدمت صراحتي بشخصيّته الفظة وصوته الأجش فلم يعجبه جانب من آرائي. ثم فاجأني بتهديد مبطن ملفوف فيما بدا له كأنه مزحة: “هل تعلم أنني أستطيع أن أعتقلك الآن بدون أي تحقيق؟”.
استوعبت “فشخرة” السلطة التي كان – هو وكثيرون فوقه وتحته – حديث العهد بها بعد نضال طويل، لكنني لم أستطع استيعاب ما ظن أنها دعابة. كانت إجابتي بنبرة معادلة ملفوفة فيما كنت أعلم أنه لا يمكن أن يكون مزحة: “نعم، أعلم هذا، مثلما أعلم أن أصغر عسكري إس.رIئيلي يستطيع أن يعتقلك دون أي سؤال لدى حاجز قلنديا”.
كان المعنى واضحًا ولم تكن نهاية العشاء على ما كان يؤمل، لكنني استنتجت بعد ذلك أن جانب المناضل داخله كان لا يزال قادرًا على احترام الشجاعة في مواجهة الحقيقة على مرارتها.
ليس من حق أحد التشكيك في نوايا قادة ناضلوا ضد الاحتلال طوال حياتهم قبل أن يقرروا أن الوقت حان من أجل ما ظنوا أنه “سلام”. ولكن من حق أي أحد آخر أن يقدم حجته ضد مدى صواب ذلك القرار.
فعلها كثيرون وقتها معترضين، ليس فقط بين الفصائل المختلفة أيديولوجيًا بل على نطاق واسع وداخل التيار نفسه. من بينهم فاروق القدومي ومحمود درويش وعبد المجيد تايه ومحمد جهاد العموري، وقالها إدوارد سعيد صريحةً: “منظمة التحرير الفلسطينية حولت نفسها من حركة تحرر وطني إلى ما يشبه حكومة بلدية صغيرة”.
من المؤسف أن ثلاثين عامًا (من 1993 إلى 2023) لم تكن كافية للاقتناع بصواب موقف المعترضين وقتها وبعدها بينما كانت الأراضي تُقتطع كل يوم والقضية تتقزم كل ساعة. ومن المخزي أن تستمع إلى ما قاله الرئيس الوقائي بعد عامين آخرين من الإبادة الجماعية وقد خلع شركاء “السلام” برقع الحياء وصعّروا عوراتهم في وجه من لا تزال تظن نفسها “سلطة” وفي وجه العالم كله.