تحليلات واراء

تقليم المناهج وترويض الإذاعة المدرسية: السلطة منشغلة بالرمزية والدعاية

تنكشف مجددا أولويات السلطة الفلسطينية على حقيقتها بانشغال مفرط بالرمزية والدعاية، وتجاهل صارخ لجوهر المأساة التي يعيشها الفلسطينيون لاسيما في خضم حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة منذ نحو عامين.

ففي أحدث النماذج على ذلك، أصدرت وزارة التربية والتعليم قراراً يطالب المدارس الحكومية والخاصة بتخصيص الإذاعة المدرسية يومي الأربعاء والخميس للحديث عن الاعترافات الدولية بدولة فلسطين، وتوجيه الشكر للدول التي اتخذت هذه الخطوة.

لكن هذا القرار أثار عاصفة من التساؤلات والانتقادات، إذ يرى مراقبون أنه كان من الأولى أن تتناول الإذاعة المدرسية جراح غزة النازفة وما يدفعه القطاع من ثمن باهظ منذ نحو عامين من الحرب والإبادة.

السلطة الفلسطينية ويكيبيديا

تقديم الشكر للدول التي اعترفت بفلسطين ليس بالأمر المرفوض بحد ذاته، لكنه يصبح فارغ المعنى حين يُستخدم بديلاً عن تناول قضايا أكثر إلحاحاً.

فبينما تحترق غزة تحت القصف وتختنق تحت الحصار، تتجه السلطة إلى تسويق منجزات رمزية على أنها انتصارات كبرى.

وكأن الاعترافات الدبلوماسية، مهما بلغ عددها، يمكن أن تعوّض عن حياة عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، أو عن فقدان البيوت والمدارس والمستشفيات.

ويقول مراقبون إن هذا النهج من السلطة يعكس سياسة قديمة جديدة، تتلخص في تحويل الصراع الحقيقي إلى سردية بروتوكولية، والاكتفاء بترديد شعارات الامتنان للدول، بدلاً من مواجهة الاحتلال بما يلزم من أدوات سياسية وشعبية وقانونية.

تقليم المناهج.. سياسة إفراغ الوعي

لا يقتصر الأمر على الإذاعة المدرسية. فالتعديلات التي طالت المناهج الدراسية في السنوات الأخيرة، والتي حذفت أو غيّبت موضوعات أساسية تتعلق بالمقاومة والهوية والحقوق التاريخية، تأتي في السياق ذاته: إفراغ الوعي الفلسطيني من عناصر القوة والصمود، واستبدالها بخطاب “التعايش” و”السلام الوهمي”.

وبحسب المراقبين فإن ما يجرى عملية ترويض منهجي للأجيال الجديدة، تبدأ من المناهج وتستمر في الإذاعة المدرسية والأنشطة الثقافية، وتهدف إلى خلق جيل يتماهى مع الرواية الرسمية للسلطة، جيل ينشغل بمراسم الشكر والاعترافات الدولية أكثر من انشغاله بجرائم الإبادة في غزة والضفة.

ومن الواضح أن السلطة تسعى إلى تثبيت شرعيتها المهزوزة عبر استعراضات إعلامية وتربوية، بدلاً من استمداد الشرعية من الشعب ومقاومته.

إذ أن السلطة تدرك أكثر من غيرها أن الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية لم تُغيّر شيئاً على الأرض: لا زالت المستوطنات تتمدد، والقدس تُهوّد، وغزة تُباد، واللاجئون محرومون من العودة.

لكنها مع ذلك تدفع المدارس لتلقين الطلبة خطابات الامتنان، وكأنها تقول للعالم: نحن أوفياء لمن يعترف بنا، حتى لو كنّا عاجزين عن حماية شعبنا.

ويندرج ذلك في إطار سياسة “إدارة الانطباعات”، لا “إدارة النضال”. فبدلاً من تربية الأجيال على الصمود والوعي التاريخي، يجري تسخير التعليم والإعلام لتجميل صورة السلطة أمام الخارج.

الغائب الأكبر: غزة

ما يثير السخط أن التعليم الرسمي يتجاهل غزة، التي تحمل العبء الأكبر من الدم والدمار.

لم تطلب الوزارة من المدارس أن تتحدث عن آلاف الأطفال الشهداء، أو عن المعاناة الإنسانية اليومية، أو عن صمود الطواقم الطبية والإغاثية تحت النار. لم تدعُ إلى تخصيص دقيقة صمت، أو حملة تضامن، أو درس عن معاني الصمود والتضحية.

بل على العكس، فضّلت تسويق “إنجاز” الاعترافات الدولية، وكأن غزة ليست جزءاً من فلسطين، أو كأن دماء أهلها مجرد تفصيل صغير يمكن تجاوزه في سبيل لعبة العلاقات العامة.

ويرى مراقبون أن السلطة لا تكتفي بتجاهل غزة، بل تعمل أيضاً على تكميم أي صوت حر قد يخرج من المدارس أو الجامعات ليعبر عن رفضه للسياسات القائمة.

فالإذاعة المدرسية، التي كانت تقليدياً منبراً للتعبير عن هموم الطلبة وقضاياهم الوطنية، تحوّلت إلى بوق رسمي يردد ما تُمليه الوزارة، في مصادرة واضحة لحرية الرأي داخل الحرم التعليمي.

بهذا المعنى، يصبح ترويض الإذاعة المدرسية جزءاً من استراتيجية السيطرة على الفضاء العام، بحيث لا يبقى مكان للخطاب المقاوم أو التضامني الحقيقي.

وعليه فإن قرار وزارة التربية ليس مجرد إجراء إداري عابر، بل انعكاس لرؤية أوسع تتبناها السلطة: الهروب إلى الأمام عبر الرمزية، بدلاً من مواجهة الاحتلال والالتحام مع نبض الشارع ومحاولة لإقناع الداخل والخارج بأن الاعترافات الدولية تعني “الانتصار”، بينما الواقع على الأرض يصرخ عكس ذلك.

وبحسب المراقبين فإن غزة ستبقى بدمها ودموعها وصمودها الامتحان الحقيقي للسلطة. وكل خطاب أو منهج يتجاهل هذه الحقيقة، هو مجرد ورقة دعاية لا تصمد أمام اختبار التاريخ. فالجيل الذي يرى ويعيش الإبادة لن ينخدع طويلًا بخطاب الشكر والاعترافات، بل سيتذكر جيدًا من كان إلى جانبه ومن اختار أن يغطي وجهه بالشعارات الفارغة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى