تحليلات واراء

على مدار حرب الإبادة في غزة.. كيف سقطت مواقف مصر في القاع؟

منذ اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة في السابع من أكتوبر 2023، ظل موقف مصر موضع تساؤل كبير، بل وصدمة لدى قطاعات واسعة من الرأي العام العربي والفلسطيني على وجه الخصوص.

إذ سقطت مواقف مصر إلى القاع، لتكشف أن حساباتها لم تعد تنطلق من ثوابت قومية أو أخلاقية، بل من مصالح آنية ضيقة، أو حسابات إقليمية تتماهى مع الأولويات الإسرائيلية والأمريكية على حساب القضية الفلسطينية.

وبينما كانت غزة تتعرض لأبشع صور القتل والدمار والتجويع، بدا أن القاهرة اختارت الوقوف في المنطقة الرمادية، أو بالأحرى في منطقة التواطؤ الصريح مع الاحتلال، تاركة الفلسطينيين وحدهم يواجهون حرب إبادة غير مسبوقة في التاريخ الحديث.

وبعد مرور 22 شهرا على بدء حرب الإبادة، بات واضحاً أن المواقف المصرية، سياسياً وإنسانياً وإعلامياً، قد هبطت إلى القاع، حتى كادت تتماهى مع الرواية الإسرائيلية، وتحولت مصر – التي كانت يوماً توصف بأنها «قلب العروبة النابض» – إلى شريك صامت أو فاعل في خنق غزة وابتزاز أهلها.

تواطؤ مصر في حرب الإبادة

لم يعد تواطؤ مصر في حرب الإبادة مجرد تهمة يرددها نشطاء أو كتاب رأي غاضبون، بل صار واقعاً تبرزه الوقائع اليومية.

فمنذ اللحظة الأولى للحرب، لم تصدر القاهرة سوى بيانات هزيلة تتحدث عن «ضبط النفس» و«التهدئة» وكأنها وسيط محايد بين طرفين متكافئين، لا بين شعب أعزل تحت القصف وجيش احتلال مدجج بالسلاح.

وأخطر ما في الموقف المصري أنه منح دولة الاحتلال غطاء سياسياً لتنفيذ حربها حتى أقصى مدى، إذ لم يصدر عن القاهرة أي تهديد حقيقي بوقف التطبيع أو تجميد العلاقات أو حتى ممارسة ضغط سياسي على الاحتلال.

فبينما كانت صور أشلاء الأطفال تملأ شاشات العالم، كان الموقف المصري ينحصر في حسابات ضيقة تتعلق بـ«الأمن القومي» و«استقرار سيناء»، متجاهلاً أن ما يجري في غزة هو إبادة جماعية ستظل وصمة عار على جبين كل من صمت أو تواطأ.

الصمت على حصار غزة وتجويعها

على مدار الحرب، شدد الاحتلال حصاره على غزة إلى حد التجويع الجماعي، حيث نفدت المواد الغذائية والوقود والأدوية، وظهرت مشاهد مروعة لأطفال يموتون جوعاً أو بسبب الجفاف أو نقص الرعاية الصحية.

وبينما ظلت الأمم المتحدة تصرخ محذرة من «مجاعة مؤكدة»، كان معبر رفح المصري مغلقاً أو يعمل بالحد الأدنى جدا من طاقته، وأحياناً بشروط إسرائيلية مباشرة، دون موقف مصري قوي يفرض إدخال المساعدات أو يكسر الحصار.

وحتى في اللحظات الحرجة التي شهدت اتفاقات هدنة مؤقتة، لم تستثمر مصر نفوذها لفرض دخول إمدادات إنسانية حقيقية تكفي احتياجات الناس. ظل معبر رفح خاضعاً لمعادلات معقدة من الإغلاق والابتزاز، حتى بات كثيرون في غزة يرون أن المعبر أداة حصار أخرى لا تختلف كثيراً عن الحصار الإسرائيلي.

مشاركة مصر في منع الإمدادات الإنسانية

الأخطر من الصمت كان مشاركة مصر الفعلية في منع أي إمدادات إنسانية تصل إلى سكان غزة، حيث رصدت تقارير دولية تكدس آلاف الشاحنات المحملة بالمساعدات على الجانب المصري من معبر رفح، لأيام أو أسابيع أحياناً، تحت ذرائع أمنية أو بيروقراطية.

ووصل الأمر إلى حد اتفاق القاهرة مع دولة الاحتلال على إخضاع كل الشحنات للتفتيش الإسرائيلي، ما جعل المساعدات رهينة الموافقة الإسرائيلية، وأعطى الاحتلال أداة إضافية لمعاقبة غزة جماعياً.

في الوقت ذاته، فشلت القاهرة في توفير أي ممر إنساني آمن ومستقل بعيداً عن إرادة الاحتلال، لتتحول إلى مجرد حلقة في سلسلة الحصار الملتف حول رقاب الغزيين.

فرض عمولات باهظة على المرضى والجرحى

لم تقتصر سياسات مصر على تعطيل المساعدات، بل امتدت إلى المتاجرة الصريحة بآلام المرضى والجرحى. إذ فرضت عمولات مالية باهظة على سكان غزة الراغبين في السفر للعلاج أو الخروج من القطاع عبر معبر رفح.

وصلت هذه العمولات في بعض الحالات إلى آلاف الدولارات للفرد الواحد، في وقت يئن فيه الناس من الفقر وفقدان مصادر الدخل. ما يجري أشبه بنظام مافيا يبتز المرضى وأسرهم، ليضاعف مآسيهم ويضيف عبئاً أخلاقياً فادحاً على صورة مصر الإقليمية والإنسانية.

الصمت المصري على إعادة احتلال الحدود

من أخطر جوانب الموقف المصري، ذلك الصمت المطبق على محاولات الاحتلال إعادة احتلال المناطق الحدودية بين غزة ومصر، وإقامة ما يسمى «منطقة عازلة» بعمق قد يصل إلى كيلومتر داخل غزة، تحت ذريعة منع التهريب وضمان أمن دولة الاحتلال.

هذه الخطوة تمثل انتهاكاً صارخاً لاتفاقية فيلادلفيا الموقعة عام 2005 والتي كانت تقضي بأن تكون الحدود مسؤولية فلسطينية-مصرية بإشراف أوروبي، لكنها اليوم تُعاد صياغتها بالكامل لصالح الاحتلال، بينما تلتزم القاهرة صمتاً مريباً، ما يشير إلى قبول ضمني بهذا المخطط الخطير الذي يهدد مستقبل غزة الجغرافي والسياسي.

تواطؤ الإعلام المصري في التحريض على غزة

زاد الطين بلة، الدور الخطير الذي لعبه الإعلام المصري في ترويج خطاب يحمّل غزة ومقاومتها مسؤولية الحرب والدمار، ويروّج للرواية الإسرائيلية عن كون الحرب «نتاجاً لاستفزازات حماس» أو «مغامرات غير محسوبة».

امتلأت الشاشات المصرية بتحليلات تكرس صورة غزة كعبء على مصر والمنطقة، وتحرض على المقاومة بوصفها «أداة إيرانية»، متجاهلة حقيقة أن الشعب في غزة يدفع الثمن من دمائه دفاعاً عن حقه في الوجود.

هذا التواطؤ الإعلامي ساهم في صناعة رأي عام مصري متبلد تجاه جرائم الحرب التي تُرتكب على بعد كيلومترات قليلة من حدود بلده.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى