تخبّط أردني بين الغضب العلني من نتنياهو والارتهان للمواقف الأميركية

يقف الأردن عاجزا في بيئة إقليمية شديدة التغيير إزاء مقاربة ما بعد حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة في ظل وقوف عمان بين الغضب العلني من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والارتهان للمواقف الأميركية.
وصرح الملك الأردني عبد الله الثاني في مقابلته الأخيرة مع قناة بي بي سي (14 أكتوبر/تشرين الأول) بأنه لا يثق بكلمة واحدة تصدر عن بنيامين نتنياهو، فإنّ ذلك لا يعبّر فقط عن أزمة ثقة، بل عن انهيار كامل في رهان الأردن التاريخي على التسوية كخيار استراتيجي مستدام.
لكن خلف هذه اللغة الحادة تكمن مفارقة مقلقة في السياسة الأردنية: إذ لا يزال الموقف الرسمي يتراوح بين الغضب الأخلاقي من جرائم الاحتلال في غزة، وبين الارتهان الواقعي للضغوط الأميركية والإسرائيلية، في لحظة تاريخية تُعيد رسم خريطة المنطقة سياسياً وأمنياً.
ومنذ تولّي نتنياهو الحكم، اصطدمت عمّان مراراً مع سياساته اليمينية المتطرفة، خصوصاً في ملفات القدس والوصاية الهاشمية، والتوسع الاستيطاني، وملف “الخيار الأردني” الذي تطرحه النخب الصهيونية باعتباره حلاً بديلاً للقضية الفلسطينية.
اليوم، ومع تصاعد خطاب “الترانسفير” والضمّ التدريجي للضفة الغربية، يشعر الأردن أنّه الهدف التالي في الحسابات الجيوسياسية لليمين الإسرائيلي، ما يفسّر تصعيد لهجة الملك والصفدي ضد حكومة نتنياهو، واعتبارها “مارقة ومتطرفة”.
لكن رغم هذا الوضوح الخطابي، لم تُترجم هذه المواقف إلى إجراءات حقيقية تعيد ضبط العلاقة أو تفرض أثماناً سياسية على تل أبيب، ما جعل الغضب الأردني يبدو أقرب إلى مناورة دبلوماسية محسوبة من كونه تحوّلاً استراتيجياً جذرياً.
ازدواجية في التعامل مع حرب غزة
منذ اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة، حاول الأردن الظهور بمظهر القائد العربي في المعركة الدبلوماسية ضد العدوان، غير أنّ أدائه العملي ظلّ محدود التأثير.
بينما تحركت قطر ومصر وتركيا بثقلها السياسي والأمني في الوساطات، اكتفى الأردن بالتحذير من التهجير الجماعي ورفض فصل الضفة عن القطاع، دون أن يمتلك أدوات ضغط حقيقية لفرض شروطه.
ويتذرّع المسؤولون الأردنيون بأنّ أولويات عمّان إنسانية وإغاثية بالدرجة الأولى، وأنّ الملفّ السياسي “تتولاه دول أخرى”، لكن هذا الخطاب يُخفي عجزاً هيكلياً في أدوات التأثير الأردنية، بعد أن فقدت المملكة منذ سنوات أوراقها الفاعلة في الملفّ الفلسطيني، ولم تعد تملك سوى ورقة الوصاية الدينية على المقدسات في القدس.
رهانات خاسرة على واشنطن
تكمن المفارقة الأكبر في تمسّك عمّان بالولايات المتحدة كوسيط رئيسي، في وقتٍ باتت فيه الإدارة الأميركية، سواء بقيادة بايدن أو بعودة ترامب، جزءاً من المشكلة لا من الحل.
ومع عودة دونالد ترامب إلى المشهد ومعه جاريد كوشنر وستيف ويتكوف، تزداد مخاوف الأردن من أن تتحول غزة والضفة إلى مختبر لمشاريع “صفقة القرن 2.0” — وهي مشاريع تتقاطع مع أجندة نتنياهو الرامية لتصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن وديموغرافيته.
تدرك عمّان أنّ فريق ترامب الجديد لا يرى في الأردن سوى دولة هامشية تفتقر إلى الثروة والنفوذ الإقليمي، ومع ذلك لم يغيّر الأردن من مقاربته التقليدية القائمة على تجنّب الصدام مع واشنطن.
بل إنّ القبول بمسودة ترامب الأخيرة لوقف الحرب على غزة، رغم “إسرائيليتها الفاضحة”، أظهر مدى ارتهان القرار الأردني للضغوط الغربية.
وتحاول عمّان الظهور كصوت العقل العربي الداعي لوقف الحرب ومنع الكارثة الإنسانية، لكنها تخشى من ثمن ما بعد الحرب أكثر من الحرب ذاتها.
فالهاجس الأكبر لدى دوائر القرار الأردنية ليس مصير غزة فحسب، بل سيناريو انهيار السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وما قد يترتب عليه من فراغ أمني يعيد إلى الواجهة مشاريع التوطين والتهجير القسري.
ويعتقد المسؤولون في عمّان أن دولة الاحتلال تسعى لتحويل الضفة إلى “كانتونات معزولة” تدفع الفلسطينيين إلى هجرة قسرية اقتصادية وسياسية نحو الأردن، وهو ما تعتبره المملكة تهديداً مباشراً لأمنها القومي وهويتها الوطنية.
لكن بدلاً من بناء جبهة عربية متماسكة لمواجهة هذه المخاطر، اختارت الدبلوماسية الأردنية تجنّب المزاحمة مع القاهرة والدوحة وأنقرة، واكتفت بدور المراقب الحذر، الأمر الذي أفقدها وزنها التاريخي كفاعل محوري في القضية الفلسطينية.
عجز استراتيجي وتناقض في الخطاب
يحاول الأردن اليوم تغليف عجزه بسياسة “الواقعية”، لكن هذه الواقعية تنقلب إلى قبولٍ مضمر بالأمر الواقع الإسرائيلي.
فبينما تتحدث عمّان عن “رفض الضمّ” و”الدولة الفلسطينية المستقلة”، يواصل الاحتلال بناء المستوطنات وفرض التقسيم الميداني، دون ردّ دبلوماسي مؤثر أو حتى مقاطعة رمزية لمعاهدات التعاون.
وفي حين يهاجم الأردن سياسات نتنياهو علناً، تستمر القنوات الأمنية والاستخبارية بين الطرفين في العمل بسلاسة، خاصة في ملفات الحدود والجنوب السوري والضفة الغربية، ما يجعل الموقف الأردني في نظر كثير من الفلسطينيين والعرب مزدوجاً ومتناقضاً.
ويقف الأردن اليوم أمام مفترق طرق: فإما أن يواصل سياسة “إدارة الأزمات” عبر الخطاب الهادئ والمناورة الدبلوماسية، أو أن يتبنّى مقاربة أكثر استقلالاً وجرأة تضعه في صفوف القوى العربية الرافضة للهيمنة الإسرائيلية والأميركية.
وقد أثبتت حرب غزة أنّ الرهانات القديمة لم تعد صالحة: واشنطن ليست ضامناً، وتل أبيب لا تعرف سوى منطق القوة، والعالم العربي تغيّر.
وإنّ استمرار الأردن في هذه المعادلة الخاسرة لن يؤدي إلا إلى مزيد من التآكل في دوره الإقليمي، وربما إلى اهتزاز صورته كوصيٍّ على القضية الفلسطينية، ما لم يعِ صانع القرار أن لغة الحذر لم تعد كافية في زمن الانفجار الإقليمي، وأنّ حماية الأمن الأردني تبدأ من موقف سياسي واضح وجريء تجاه جرائم الاحتلال في غزة، لا من التوازن اللفظي بين الغضب والصمت.





