تحليلات واراء

السلطة تثبّت قبضتها بقانون انتخابي مفصّل وتدفع النظام السياسي نحو التفكّك

يمثّل القرار بقانون رقم (23) لسنة 2025 بشأن انتخابات مجالس الهيئات المحلية محطة جديدة تكشف عمق الأزمة البنيوية التي تضرب النظام السياسي الفلسطيني، وتعرّي الدور الذي باتت تلعبه السلطة في إعادة هندسة الحياة السياسية وفق احتياجاتها الضيقة، لا وفق المصلحة الوطنية الجامعة.

فالتعديلات التي فرضتها السلطة، وعلى رأسها شرط الالتزام ببرنامج منظمة التحرير الفلسطينية والتزاماتها الدولية، جاءت لتفتح الباب أمام موجة واسعة من الرفض السياسي والحقوقي، ولتكشف في الوقت ذاته هشاشة القوى القائمة، وعجزها عن مواجهة سلطة انفردت بالقرار والتمثيل.

ويبرز الكاتب والمحلل السياسي طاهر المصري أن التعديل المتعلق بفرض “الالتزام ببرنامج منظمة التحرير” ليس مجرد مسألة إجرائية أو سياسية، بل أداة صريحة لإقصاء كل من لا ينسجم مع المسار الرسمي المتآكل.

وبحسب المصري تُظهر طريقة تمرير القانون — بعيدًا عن أي توافق وطني — أن السلطة ماضية في استخدام أدواتها التشريعية لتصفية التعددية السياسية ومنع أي منافسة حقيقية في صناديق الاقتراع.

واللافت أن السلطة نفسها ساهمت في تعطيل مؤسسات منظمة التحرير سنوات طويلة، ومع ذلك توظّف اليوم اسم المنظمة كعصا قانونية لضبط المشهد السياسي، لا كمرجعية وطنية تمثيلية. وهو تناقض لا تخطئه العين: سلطة تتحدث باسم منظمة معطّلة، وتُلزم القوى بمعايير دولية لم تلتزم هي بها إلا شكليًا.

السلطة الفلسطينية ويكيبيديا

رغم ما صدر من اعتراضات من فصائل منضوية تحت مظلة المنظمة، فإن جميعها بقي في إطار “الاستنكار البروتوكولي” دون أي فعل سياسي حقيقي. قوى تمتلك نظريًا أدوات ضغط داخل المنظمة — من اللجنة التنفيذية إلى المجلسين المركزي والوطني — لكنها لم تلوّح حتى باستخدام أبسطها، سواء بالدعوة لاجتماعات طارئة أو تعليق المشاركة أو كشف الانحرافات السياسية والإدارية المتراكمة.

والواقع أنّ كثيرًا من هذه القوى بات جزءًا من شبكة مصالح تتقاطع مع السلطة ومراكز نفوذها. فالتنظيمات التي تعاني شيخوخة تنظيمية وتراجعًا جماهيريًا، وتعيش على رمزية تاريخية أكثر من حضور فعلي، لم تعد قادرة على خوض مواجهة حقيقية، خشية خسارة الفتات الذي تجود به السلطة، أو خوفًا من فتح ملفات فساد قديمة يمكن استخدامها لإخضاعها وإسكاتها.

وقد بات مألوفًا أن تتبنّى بعض الفصائل خطابًا وسطياً أو مائعاً، لأنها تعيش حالة اعتماد بنيوي على السلطة ومصادر تمويلها، ما يجعلها أقرب إلى جمهور مصفق منها إلى قوة معارضة.

في مقابل هذا الضعف الحزبي، ظهر المجتمع المدني الفلسطيني كصوت أوضح وأكثر ثباتًا في مواجهة التعديلات، مستندًا إلى معايير قانونية وحقوقية صلبة. فقد اعتبرت مؤسساته أن شرط الالتزام ببرنامج المنظمة مخالف للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وللقانون الأساسي، ووثيقة إعلان الاستقلال.

تغييرات تمهّد لتفكيك التمثيل الوطني

يشير المصري إلى أن خطورة التعديل لا تكمن فقط في إقصاء الفصائل المخالفة، بل في احتمال تحويل البلديات التي يُفترض أنها أجسام خدماتية إلى مؤسسات ذات شرعية سياسية مستمدة من “الالتزام ببرنامج وطني”.

ويفتح ذلك الباب أمام سيناريوهات خطيرة منها احتمال نقل جزء من التمثيل السياسي من منظمة التحرير إلى البلديات بحكم الواقع وتعزيز توجهات دولية نحو التعامل مع البلديات كبدائل تمثيلية إلى جانب احتمال إنشاء اتحادات بلدية ذات طابع سياسي قد تضطلع بأدوار تفاوضية أو تمثيلية.

ويرى المراقبون في ذلك عودة مقنّعة لفكرة “روابط القرى” بنسخة محدثة، وبأدوات قانونية تحمل ختم السلطة الفلسطينية نفسها وتكرس أزمة نظام سياسي لا أزمة قانون فقط.

ويحذر المراقبون من أن ما يجري انعكاس لانهيار بطيء في بنية النظام السياسي الفلسطيني عبر ترسيخ سلطة بلا شرعية انتخابية، ومنظمة فقدت مركزيتها، وفصائل متآكلة عاجزة عن الفعل، وانقسام يعيد إنتاج ذاته عامًا بعد عام، واحتلال يستثمر كل هذا لتفكيك ما تبقى من المشهد الوطني.

والأخطر أن السلطة تواصل تمرير قوانين مصيرية في فراغ سياسي كامل، وكأن الشعب الفلسطيني يعيش حالة استقرار مؤسسي لا تعيشه حتى الدول المستقرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى