دعم ميليشيات ولصوص المساعدات.. صفحة عار جديدة في مسيرة السلطة

بعد أكثر من عشرين شهرًا من العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، والذي اتخذ أشكالاً متنوعة من القصف الشامل والتجويع الممنهج والقتل الجماعي، تبدو المرحلة الحالية من الحرب وكأنها تتجه إلى مستوى أشدّ خطورة بتكريس ظاهرة دعم ميليشيات ولصوص المساعدات.
يستهدف ذلك تفكيك النسيج الاجتماعي الفلسطيني من الداخل، بإشعال الفوضى، وتحويل القطاع إلى ساحة ميليشيات وفلتان أمني. والمفارقة الصادمة في هذا السياق أن من يتورّط في هذه اللعبة القذرة – بحسب مصادر عبرية موثقة – ليس الاحتلال وحده، بل أطراف في السلطة الفلسطينية نفسها.
الفوضى كسلاح.. حين تفشل الحرب المباشرة
منذ بدايات العدوان، فشلت دولة الاحتلال في تحقيق أي من أهدافها العسكرية المعلنة، سواء بتصفية المقاومة أو إعادة “الردع”، بل إنّ المعطيات تشير إلى تعاظم مكانة المقاومة وازدياد التفاف الحاضنة الشعبية حولها رغم ظروف الحرب والمجاعة.
أمام هذا الواقع، لجأ الاحتلال إلى خيار “الفوضى الخلّاقة”، الذي يعني تحطيم المجتمع الفلسطيني من الداخل، وتفتيته إلى عصابات متصارعة تنهش ما تبقى من تماسك، تحت شعارات “الحماية القبلية” و”التمثيل المحلي”.
وأكدت القناة العبرية “i24NEWS” ووسائل إعلام عبرية أخرى، أن عصابة ياسر أبو شباب – التي تنشط جنوب قطاع غزة وتقوم بعمليات نهب للمساعدات واقتحام منازل المقاومين – تعمل بتنسيق مباشر مع أجهزة الاحتلال الأمنية، وتحظى بدعم لوجستي وتدريب من دولة عربية لم يُسمَّها، وبغطاء سياسي من أحد مستشاري الرئيس الفلسطيني محمود عباس هو سيء السمعة محمود الهباش.
من التواطؤ إلى الخيانة: دور السلطة في دعم الفوضى
ما تكشفه هذه التسريبات ليس مجرد “تغافل” من السلطة، بل تواطؤ مباشر يُعبّر عن تحول خطير في أدائها: من التنسيق الأمني في الضفة، إلى التنسيق التخريبي في غزة.
ووفقًا لما ورد في القناة العبرية، فإن الهباش، كان على تواصل مباشر مع زعيم هذه العصابة، ما يطرح أسئلة ثقيلة عن مدى علم عباس ورضاه، خصوصًا أن القناة نقلت صراحة أن “كل شيء يتم بالتنسيق مع الرئيس الفلسطيني”.
تؤكد هذه المعلومات، أننا أمام صفحة عار في مسيرة السلطة الفلسطينية، تسجّل فيها نفسها – طواعية أو تواطؤًا – كطرف مشارك في مشروع الاحتلال لتمزيق غزة، وتجويع أهلها، وزرع الفتنة داخل صفوف المجتمع المقاوم.
الاحتلال يعترف: العصابات صناعة إسرائيلية
اللافت في كل هذا المشهد أن الاعتراف جاء هذه المرة من أعلى سلطة في الاحتلال.
فقد أعلن بنيامين نتنياهو، بوضوح، أن تشكيل هذه العصابات هو جزء من خطة عسكرية لزعزعة نفوذ حركة حماس وفصائل المقاومة، وكسر البنية الصلبة للمجتمع الفلسطيني.
قبل ذلك، كان وزير الحرب الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، قد تحدث عن “عدم ممانعة” في استخدام المجرمين ضد المقاومة، في تصريح يكشف عن الطبيعة المافيوية للمخطط.
وزير الحرب الأسبق، أفيغدور ليبرمان، ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، عندما اعترف بأن الاحتلال سلّح هذه المجموعات بأسلحة خفيفة وهجومية، بهدف نشر الفوضى، وتخريب الداخل، مؤكدًا أن هذا القرار تم من فوق رأس المؤسسة العسكرية الرسمية.
عصابة أبو شباب ذراع أمني للاحتلال
تحوّلت هذه العصابة إلى ذراع أمنية غير رسمية للاحتلال، تنشط في مناطق جنوب القطاع، وخصوصًا على طريق صلاح الدين بين رفح وخانيونس، حيث تقوم بمهام متعددة: سرقة المساعدات، ملاحقة عائلات المقاومين، إطلاق النار على المدنيين، ونشر الرعب في المناطق المحرومة.
وتفيد تقارير ميدانية بأن عناصر هذه العصابة يحملون أسلحة مصدرها شهداء المقاومة، استولى عليها جيش الاحتلال ثم أعاد توزيعها على “وكلائه” المحليين، في محاولة لخلق فوضى دموية تدفع الناس إلى الصدام الداخلي، وتحطيم آخر ما تبقى من الأمل والاستقرار.
نموذج “جيش لحد” يعود إلى الواجهة
تشير طريقة عمل هذه العصابات إلى إعادة إنتاج تجربة “جيش لحد” في جنوب لبنان، حين اعتمدت إسرائيل على ميليشيا محلية لتنفيذ أجندتها الأمنية. الفارق أن التجربة اليوم تجري في بيئة أكثر تماسكًا، وأكثر وعيًا، وأكثر صلابة شعبية تجاه أي محاولة لتشويه هوية القطاع المقاوم.
غير أن المخاطر لا تقلّ؛ فالفوضى، كما يقول ليبرمان نفسه، قد تنقلب على صانعها، ومن يضمن أن لا تتحوّل هذه العصابات لاحقًا إلى تهديد مباشر لإسرائيل نفسها؟ ولكن الأخطر من ذلك: من يضمن ألا يتوسع هذا النموذج وينتشر في مناطق أخرى، إذا ما نجحت السلطة الفلسطينية في الترويج له كـ”حل أمني بديل” عن المقاومة؟
يؤكد مراقبون أنّ ارتباط السلطة الفلسطينية بهذه العصابات، سواء بالتغاضي أو التوجيه، يمثّل سقوطًا أخلاقيًا وسياسيًا مدويًا، لا يمكن اعتباره مجرد انحراف، بل هو تماهٍ مع استراتيجية الاحتلال نفسه. ولا يملك الفلسطينيون أي ترف للسكوت، أو التعامل مع الأمر على أنه نزاع داخلي عابر.
مَن يسهم في تسليح الفوضى، ويدعم عصابات اللصوص في وقتٍ تُباد فيه العائلات، لا يمكن أن يكون ممثلًا شرعيًا للشعب، ولا حافظًا للمشروع الوطني. وإن استمرار هذه السياسة سيحوّل السلطة من كيان سياسي إلى مجرد جهاز وظيفي في منظومة الاحتلال، يقدّم خدمات أمنية في الضفة، ويزرع الفوضى في غزة.
وعي المقاومة ورد الفعل الشعبي
ردود الفعل الشعبية داخل غزة لم تتأخر. الناس الذين باتوا ينامون على أصوات القصف، ويستفيقون على أنباء المجازر، باتوا اليوم يطاردون عناصر هذه العصابات كما لو كانوا جنودًا صهاينة متنكرين.
لا حاضنة شعبية، ولا غطاء قبلي، بل إدراك جماعي أن هذا المشروع يهدد كل بيت، ويستهدف كل مقاوم، ويمسّ كرامة الناس قبل لقمة عيشهم.
أما المقاومة، فقد أرسلت رسائل واضحة وحاسمة، حين أعلنت “كتائب القسام” استهداف عناصر من هذه الميليشيات بكمين محكم شرق رفح، وأظهرت مقاطع فيديو ميدانية توثّق تتبعهم وتفجير عبوات ناسفة فيهم، في رسالة فحواها أن المعركة مع الاحتلال لن تتحول إلى حرب أهلية، وأن من يختار العمالة سيُعامل كعدو، أيًا كان اسمه أو خلفيته.
صفحة العار لن تُمحى بالصمت
إن دعم ميليشيات ولصوص للمساعدات في غزة لا يُمكن قراءته خارج سياق التواطؤ مع مشروع الاحتلال، وتكريس حرب التجويع. هو جزء من استراتيجية أوسع تُدار من داخل غرف التنسيق الأمني والسياسي، وتستهدف ليس فقط سلاح المقاومة، بل إرادة الناس، وكرامتهم، وذاكرتهم.
السلطة الفلسطينية، التي فشلت في إدارة الضفة، تكرر ذات النمط المدمر في غزة، وتحمل معها خيباتها وهزائمها، لتحوّلها إلى خناجر تطعن الجبهة الداخلية.
وإذا لم يكن لهذا الانحدار سقفٌ أخلاقي، فإن الرهان اليوم على وعي الحاضنة الشعبية في القطاع، وقدرتهم على التمييز بين المقاوم والعميل، بين الجائع بشرف، وبين المرتزق الذي يعتاش على معاناة الآخرين.
وإذا كانت هذه صفحة عار، فإن الصفحة القادمة ستكون صفحة الحساب. والشعب الفلسطيني، الذي صمد أمام الاحتلال، لن يمرّر الخيانة دون مساءلة.