تحليلات واراء

“مكافحة التطرف”.. حين تتحول السلطة إلى أداة لتبييض الاحتلال

لا يأتي الإصرار الإسرائيلي على مطالبة السلطة الفلسطينية بتطبيق إجراءات ما يُسمى “مكافحة التطرف” في فراغ سياسي أو أمني، بل في سياق أوسع من محاولات إعادة تعريف الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي بطريقة تنزع عنه جوهره الاستعماري، وتحيله إلى “مشكلة سلوك” فلسطينية تحتاج إلى ضبط وتأديب.

وبحسب مراقبين فإن الأخطر من الطلب نفسه هو تجاوب السلطة الفلسطينية معه، سواء بالصمت، أو بالمسايرة، أو بمحاولة ترجمته إلى سياسات أمنية وتعليمية وإعلامية، وكأن أصل المأساة الفلسطينية يكمن في وعي الضحية لا في بنية الاحتلال.

إذ تفترض الرواية الإسرائيلية، التي يجري تسويقها دولياً، أن “التطرف” الفلسطيني هو سبب الصراع لا نتيجته.

ووفق هذا المنطق المقلوب، يُطلب من شعبٍ خاض حرب إبادة على مدى عامين، وتعرض للتجويع والحصار والتهجير، أن يُراجع نفسه أخلاقياً وفكرياً لإرضاء دولةٍ يلاحق رئيس حكومتها ووزير جيشها أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب. هنا لا يعود الحديث عن سياسة أمنية، بل عن محاولة فرض خضوع نفسي وثقافي على شعب يعيش تحت الاحتلال.

السلطة الفلسطينية ويكيبيديا

تستجيب السلطة الفلسطينية لهذه المطالب، أو على الأقل لا تواجهها بوضوح، في لحظة تاريخية يُفترض أن تكون فيها مهمتها الأساسية حماية السردية الوطنية، لا تفكيكها.

فبدلاً من أن تضع السلطة المجتمع الدولي أمام حقيقة أن العنف البنيوي هو عنف الاحتلال، تنخرط – ولو ضمنياً – في نقاشات حول “إصلاح المناهج” و”خطاب التحريض” و”تهذيب الوعي الجمعي”، وكأن المشكلة في الكتب المدرسية لا في المستوطنات، وفي الشعارات لا في الجدران والحواجز.

والأخطر أن مفهوم “مكافحة التطرف” نفسه فضفاض، ويُستخدم كسلاح سياسي.

فهو لا يشمل عنف المستوطنين المنظم، ولا خطاب الكراهية العلني الصادر عن وزراء إسرائيليين يدعون إلى الإبادة والتهجير، ولا سياسات القتل الممنهج في الضفة الغربية وغزة.

بل يُختزل حصراً في الفلسطيني: في لغته، وذاكرته، وتعليمه، وحتى في حقه بتسمية الأشياء بأسمائها. يصبح ذكر النكبة “تطرفاً”، والمطالبة بالعودة “تحريضاً”، ورفض الاحتلال “إرهاباً فكرياً”.

التنسيق الأمني المقدس

يضع تجاوب السلطة الفلسطينية مع هذا الإطار في موقع بالغ الخطورة. فهي بذلك تُسهم في تجريم أشكال المقاومة السياسية والرمزية، وتمنح دولة الاحتلال شهادة “حُسن سلوك” دولية، تُستخدم لاحقاً لتبرير استمرار الاحتلال بذريعة أن الفلسطينيين “لم ينجحوا بعد في اجتثاث التطرف من مجتمعهم”.

وهكذا يتحول الاستحقاق السياسي – إنهاء الاحتلال – إلى اختبار أخلاقي دائم للضحية، لا ينتهي ولا يُستوفى.

ثمة بُعد آخر لا يقل خطورة، وهو البُعد الداخلي. فسياسات “مكافحة التطرف” التي تُطبق تحت الضغط الإسرائيلي غالباً ما تُترجم إلى تشديد أمني، وتضييق على الحريات، وملاحقة للنشطاء، وتكميم للأفواه.

وبدلاً من بناء جبهة وطنية متماسكة في مواجهة الاحتلال، تتعمق الفجوة بين السلطة والمجتمع، ويتعزز الانطباع بأن السلطة تؤدي وظيفة أمنية أكثر مما تؤدي دوراً تحررياً.

لا يمكن فصل هذا المسار عن وهم قديم–جديد ما زال يحكم سلوك بعض دوائر القرار في رام الله: وهم أن “الالتزام الأمني” و”الاعتدال السياسي” و”محاربة التطرف” ستكافَأ يوماً ما بدولة أو سيادة أو حتى بتحسين شروط الحياة.

غير أن التجربة الممتدة لعقود تثبت العكس تماماً. فكلما قدمت السلطة تنازلاً جديداً، ارتفع سقف المطالب الإسرائيلية، وتآكلت المساحة المتبقية للفعل الوطني.

المفارقة القاسية أن هذا يحدث في لحظة بدأ فيها جزء متزايد من الرأي العام العالمي بإعادة النظر في الرواية الإسرائيلية، وبالاعتراف بأن جذور العنف تكمن في الاحتلال لا في هوية الفلسطيني.

ومع ذلك، تواصل السلطة الفلسطينية السباحة عكس هذا التيار، مترددة في كسر الإطار الذي فُرض عليها منذ اتفاق أوسلو، رغم انهياره العملي والأخلاقي.

ويشدد المراقبون على أن المطالب الإسرائيلية بمكافحة التطرف غير معقولة، وتبنيها أو تمريرها تواطؤ مع إعادة إنتاج الاحتلال، فالمطلوب ليس إعادة هندسة الوعي الفلسطيني، بل تفكيك منظومة السيطرة الاستعمارية وبلورة موقف فلسطيني يعيد تسمية الصراع كما هو: صراع تحرر وطني، لا أزمة تربية مدنية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى