تحليلات واراء

قلق بنيوي وعسكرة متواصلة: استطلاعات الأمن القومي تفضح مأزق المجتمع الإسرائيلي

تعكس نتائج استطلاع “الأمن القومي” الذي نشره معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي صورة مركّبة لمزاج المجتمع الإسرائيلي، تجمع بين القلق العميق وانعدام الطمأنينة، وبين استعداد نفسي وسياسي واسع لمواصلة الاعتماد على القوة العسكرية كخيار شبه وحيد لإدارة التهديدات.

فعلى الرغم من الخطاب الرسمي الذي يروّج لتحقيق “إنجازات عسكرية كبرى” منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تظهر المعطيات أن هذه الإنجازات لم تترجم إلى شعور حقيقي بالأمن لدى الجمهور، بل كشفت عن أزمة ثقة بنيوية تطاول السياسة والحكومة، مقابل تضخم غير مسبوق في مكانة المؤسستين العسكرية والأمنية.

وتتجلى أولى مؤشرات هذا المأزق في التقييم العام لوضع الأمن القومي. فكون أقل من ثلث الجمهور اليهودي فقط يرى أن الوضع “جيّد” أو “جيّد جدًا”، مقابل أغلبية تصنّفه بين “المتوسط” و“السيّئ”، يدل على فجوة واضحة بين الخطاب الرسمي والوعي المجتمعي.

وتعبر هذه الفجوة عن إدراك عميق بأن الضربات العسكرية، مهما كانت قاسية، لم تُنهِ التهديدات البنيوية التي تواجه دولة الاحتلال، بل ربما أعادت إنتاجها بأشكال أكثر تعقيدًا.

ويزداد هذا التباين وضوحًا عند النظر إلى الانقسام السياسي الداخلي. فمصوّتو الائتلاف الحكومي يميلون إلى تقييم أكثر إيجابية للوضع الأمني، في انسجام واضح مع رواية الحكومة، بينما يظهر ناخبو المعارضة قدرًا أعلى من التشاؤم.

زوال إسرائيل ويكيبيديا

على مستوى التوقعات المستقبلية، يبدو التفاؤل النسبي الذي عبّر عنه نحو نصف الجمهور تفاؤلًا مشروطًا، لا يستند إلى شعور بالأمان بقدر ما يستند إلى أمل في “حسم” عسكري قادم.

فالتفاؤل الأعلى يسود بين مصوّتي اليمين والائتلاف، أي في الأوساط الأكثر إيمانًا بأن القوة العسكرية قادرة، في نهاية المطاف، على فرض معادلة ردع جديدة. أما في أوساط الوسط–اليسار والمعارضة، فيبقى التفاؤل أضعف، ما يشير إلى شكوك أعمق في قدرة الأدوات الحالية على إنتاج أمن مستدام.

ويشكل القلق من التهديدات الخارجية القاسم المشترك الأوسع بين مختلف التيارات السياسية.

فارتفاع نسبة القلق إلى 73% يعكس حالة خوف جماعي تتجاوز الخلافات الحزبية، وتؤكد أن المجتمع الإسرائيلي يعيش تحت شعور دائم بالتهديد، سواء من غزة أو لبنان أو إيران.

واللافت هنا أن هذا القلق أعلى لدى مصوّتي المعارضة، ما يعكس إدراكًا أكبر لتكلفة السياسات الحالية، أو تشككًا أوسع في قدرتها على تحقيق ردع طويل الأمد.

لكن الأخطر، وربما الأكثر دلالة، هو التراجع الحاد في الشعور بالأمن الشخصي. فحين يفقد الفرد إحساسه بالأمان في حياته اليومية، فإن ذلك يشير إلى انتقال القلق من مستوى “الدولة” إلى مستوى “الذات”.

ويعكس هذا التحول فشلًا في ترجمة التفوق العسكري إلى شعور بالاستقرار الاجتماعي، ويكشف عن أثر عميق للهجمات المتكررة، والإنذارات، والتعبئة المستمرة، على النسيج النفسي للمجتمع.

التهديدات الخارجية لإسرائيل

حسب نتائج الاستطلاع لا يقلّ القلق في المجتمع الإسرائيلي من التصدّعات الداخلية خطورة عن القلق من التهديدات الخارجية.

فإقرار 86% من الجمهور بقلقهم من التوترات الاجتماعية يدل على إدراك واسع بأن الخطر لا يأتي فقط من الخارج، بل من الداخل أيضًا.

كما أن الانقسامات السياسية، والخلافات حول هوية الدولة، ودور القضاء، وطبيعة الحكم، باتت تُرى كعامل تهديد لا يقل أهمية عن الصواريخ والطائرات المسيّرة.

في هذا السياق، تبرز مفارقة الثقة: ثقة عالية جدًا بالمؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية، مقابل ثقة متدنية بالحكومة ورموزها السياسية.

وتعكس هذه المفارقة اختلالًا بنيويًا في النظام السياسي الإسرائيلي، حيث تُفوَّض المؤسسة الأمنية بدور “المنقذ”، بينما تُحمَّل السياسة مسؤولية الإخفاق. ونتيجة لذلك، تتآكل الرقابة المدنية على القرار الأمني، ويتعزز نفوذ الجنرالات وأجهزة الاستخبارات في صياغة السياسات.

وتخلق هذه المعادلة مناخًا عامًا مؤيّدًا لاستئناف الحرب أو توسيعها. فحين يشعر الجمهور بالقلق، ويثق بالجيش أكثر من السياسيين، يصبح الخيار العسكري هو المسار “الطبيعي” لأي حكومة، مهما كانت شعبيتها. كما يفسر ذلك دعم المعارضة، أو صمتها في الحد الأدنى، تجاه القرارات الأمنية الكبرى، ما يعكس إجماعًا أمنيًا عابرًا للأحزاب.

في المحصلة، تكشف نتائج الاستطلاع أن المجتمع الإسرائيلي لا يعيش حالة طمأنينة بعد أكثر من عام على الحرب، بل حالة قلق مزمن تدفعه، إلى مزيد من الارتهان للقوة العسكرية ما يعمّق عسكرة المجتمع، ويمنح اليمين واليمين المتطرف شرعية إضافية، ويجعل أي تغيير في النهج محكومًا بالبقاء داخل الإطار الأمني ذاته، مهما تغيّرت الوجوه أو الحكومات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى