
في قطاع يُدفن تحت الركام، ويُحاصر بالنار والجوع، يطلّ بعض التجار كغربان على حافة المجاعة، يراكمون الأرباح بينما ينهار جسد الطفولة في غزة.
محلان شهيران للحلويات، “كاظم” و”القاضي”، أُغلقت أبوابهما في الأيام الأخيرة، لكن ما خفي أعظم، فرغم محاولة “القاضي” التظاهر بأنه ضحية الظروف، تشير المعطيات إلى تورط مباشر في واحدة من أكثر الجرائم الاقتصادية فظاعة منذ بدء الحرب التربّح من احتكار السكر والحليب وسط انهيارٍ غذائي كامل.
ردود فعل غاضبة على مواقع التواصل
وأكدت مصادر مطلعة أن المحلين تلقّيا تهديدًا مباشرًا من “قوة سهم”، بعد ثبوت استغلالهما للأزمة عبر تخزين كميات ضخمة من الحليب والسكر، بينما تصرخ الأجساد الهزيلة في حضن أمهاتٍ عاجزات.
في غزة، حيث لا يدخل الحليب منذ أربعة أشهر، وتُمنع شحناته من الوصول للمستشفيات، كانت رفوف هؤلاء التجار مكتظة بالمخزون، لا لشيء إلا لبيعه لاحقًا بأسعار فلكية.
حليب الأطفال يُنهب
ويعاني القطاع من انقطاع شامل في حليب الأطفال والخدّج، في البيوت وفي المستشفيات على السواء.
وأطلق مستشفى الرنتيسي نداء استغاثة بعد أن فرغ مخزونه تمامًا. لا علبة حليب واحدة متبقية. الأطفال يصلون تباعًا وهم يعانون من الجفاف وسوء التغذية ونقص الوزن الحاد. وجوههم شاحبة، وعيونهم غائرة، وصرخاتهم لا تتوقف.
وما زاد من مأساة القطاع أن الرضاعة الطبيعية لم تعد كافية أو ممكنة. أجساد الأمهات أرهقها الجوع، والدمار، والتهجير. الغالبية لا تملك ثمن علبة حليب واحدة، والتي تجاوزت في السوق السوداء 150 شيكلًا، هذا إن توفرت أصلًا.
بينما ينهار النظام الغذائي للرضّع في غزة، كانت محلات الحلويات تواصل إنتاج الكنافة والبقلاوة والكيك المُخمّر بالحليب والسكر.
وفي وقت باتت فيه هذه المواد أشبه بالذهب، امتلك هؤلاء التجار كميات ضخمة تُوزّع على معارفهم وزبائنهم المقرّبين، بينما كان الآخرون يتوسّلون علبة حليب.
ولم يعد خافيًا على أحد أن بعض هذه المحلات مارست الاحتكار والابتزاز، متسببة بارتفاع جنوني في أسعار السلع الأساسية، مقابل أرباح دموية لا تُغتفر.
إبادة غذائية في غزة
وما يجري ليس فقط تجارة سوداء في زمن حرب، بل خيانة موصوفة في وضح النهار. التجار الذين يكنزون السكر والحليب، بينما تنهار عظام الأطفال جوعًا، لا يختلفون عن من يقصفون. كلهم شركاء في الجريمة.
الاحتلال يمنع، والسلطة تتواطأ، والبعض في الداخل يتربّح. وفي المنتصف، رضيع يبكي بلا حليب، وأم تمزّق قلبها بين دموع العجز وصمت العالم.
وحذر الأطباء من تصاعد موجات سوء التغذية والوفاة بين الأطفال في الأسابيع المقبلة. الحليب العلاجي والدوائي لم يدخل منذ أشهر، والحليب العادي أصبح ترفًا لا تقدر عليه آلاف العائلات. حتى المستشفيات الدولية لم تعد تملك مخزونًا، والمؤسسات الإنسانية عاجزة عن التصرف.
وفي هذا المشهد المعتم، لا يمكن تجاهل دور بعض التجار الذين انضموا لمعسكر الجريمة رفعوا الأسعار، احتكروا المواد، وتاجروا بالجوع.