تحليلات واراء

دروس التاريخ في صمود المقاومة وفضح تواطؤ دول التطبيع العربي

لا جدال في أن حرب الإبادة الجماعية المستمرة على قطاع غزة، بفظاعاتها المروعة ومجازرها اليومية، ليست مجرد مشهد دموي يبث على الشاشات، بل هي عملية إبادة وتطهير عرقي شاملة، تستهدف البشر والحجر، وتمحو ملامح الحياة والذاكرة والمستقبل.

ووسط هذا الخراب، تتعالى أصوات إقليمية ودولية تطالب المقاومة، وعلى رأسها حركة حماس، بإعادة حساباتها والقبول باتفاقيات “سلام” تعني فعليًا الاستسلام ونزع السلاح وتسليم القطاع للاحتلال.

لكن قراءة التاريخ، عربيًا وعالميًا، تؤكد أن الاستسلام لم يكن يومًا طريقًا لحماية الشعوب من بطش المحتل، بل بوابة لمزيد من القهر والهيمنة.

التجويع كسلاح حرب… وغطاء عربي للتصفية

في هذه الحرب، لم تكتف دولة الاحتلال بالقصف الشامل والتدمير الممنهج، بل لجأت إلى التجويع الممنهج كسلاح إبادة جماعية، عبر حصار خانق يمنع الغذاء والدواء والوقود.

هذا الأسلوب يهدف إلى دفع المقاومة للرضوخ، تحت ضغط الأزمة الإنسانية الهائلة، بينما تقوم دول عربية، وعلى رأسها دول التطبيع، بلعب دور الوسيط الضاغط على المقاومة، ليس لإنقاذ المدنيين، بل لإنقاذ دولة الاحتلال من مأزقها العسكري.

وتأتي الاتصالات المكثفة بين هذه العواصم والسلطة الفلسطينية في سياق صياغة تسوية تفضي إلى تفكيك البنية السياسية والعسكرية لحماس، وإبعاد قادتها عن غزة، وتسليم السلطة للاحتلال أو لوكلائه المحليين. إنها إعادة إنتاج لسيناريوهات قديمة، حيث تُستخدم الأنظمة العربية كأدوات لتصفية قضايا المقاومة، تحت غطاء “حقن الدماء”.

دروس من الجزائر وفيتنام… حين رفضت المقاومة الانكسار

التاريخ يقدم لنا نماذج حية على أن الاستسلام لا يجلب الحرية ولا الأمان.

الثورة الجزائرية (1954–1962): رغم حجم المجازر الفرنسية وقسوة الاحتلال، لم يرفع الجزائريون الراية البيضاء، بل واصلوا الكفاح المسلح والسياسي حتى انتزعوا الاستقلال. لو كانوا قبلوا بأي اتفاق مبكر ينزع سلاحهم، لبقي الاستعمار جاثمًا لعقود أخرى.

المقاومة الفيتنامية: في مواجهة أعتى قوة عسكرية في العالم، الولايات المتحدة، لم تختر “ثقافة الحياة” بمعناها الاستسلامي، بل صمدت في الغابات والأنفاق، حتى أجبرت القوات الأميركية على الانسحاب المذل من فيتنام.

هذان المثالان يثبتان أن الاستمرار في المقاومة، حتى في أحلك الظروف، قد يكون السبيل الوحيد لانتزاع الحرية. أما الانصياع للضغوط، فيعني تكريس الاحتلال ومنحه شرعية جديدة.

أسئلة مضللة… وخلفية إعلامية مسمومة

اليوم، يتبنى الإعلامان العربي والدولي خطابًا يطرح أسئلة ظاهرها إنساني، لكنها في جوهرها أدوات ضغط نفسية وسياسية:

لماذا لا ينتفض أهل غزة على حماس وفصائل المقاومة؟

لماذا لا تطلق حماس سراح الأسرى الإسرائيليين مقابل وقف الحرب؟

لماذا لا تتخلى حماس عن السلطة؟

هذه الأسئلة تتجاهل التجارب التاريخية التي تثبت أن المحتل، حتى بعد أي تنازل أو اتفاق، يبحث عن ذريعة لاستئناف الحرب.

إذ أن دولة الاحتلال لن تتوقف عن القتل لأنها حصلت على الأسرى أو على غزة منزوع السلاح، بل ستواصل حملات “التطهير” بحجج أمنية جديدة.

التواطؤ العربي… من التطبيع إلى الضغط على المقاومة

ما يزيد مأساوية المشهد هو الدور التخريبي لدول التطبيع العربي، التي باتت أذرعًا إقليمية للمشروع الإسرائيلي–الأميركي في المنطقة.

هذه الدول لا تتحرك إلا عندما تكون دولة الاحتلال في مأزق، وتسعى إلى إنقاذها عبر الضغط على المقاومة، سواء من خلال الوساطات السياسية أو عبر الإعلام الموجه الذي يشيطن حماس ويبرر الحصار.

كما أن هذا التواطؤ يتقاطع مع الرؤية الإسرائيلية التي تسعى لتصفية القضية الفلسطينية عبر تحويل الصراع من مواجهة مع الاحتلال إلى صراع داخلي فلسطيني–فلسطيني، الأمر الذي يعفي الاحتلال من تكاليف الحرب المباشرة ويمنحه مساحة لمواصلة التوسع الاستيطاني وتهويد الأرض.

صمود المقاومة… بين الكلفة والضرورة

صحيح أن الكلفة الإنسانية التي يدفعها أهل غزة هائلة، وأن الحصار والجوع يفتكان بهم، لكن التاريخ يعلمنا أن الانكسار أمام المحتل لا يحمي الأرواح، بل يفتح أبوابًا لجولات قمع أشد.

فالاستسلام يعني تسليم القرار الفلسطيني بالكامل لإسرائيل وحلفائها الإقليميين، وتجريد الشعب من أي أداة قوة يمكن أن تردع المحتل في المستقبل.

والاستمرار في المقاومة، ولو بأسلوب حرب استنزاف طويلة، هو ما يبقي القضية حية، ويجعل الاحتلال في موقع الدفاع بدل الهجوم. هذا الخيار قد يكون أكثر قسوة في المدى القصير، لكنه يمنح الأمل في التحرر على المدى الطويل، كما حدث في تجارب الجزائر وفيتنام وجنوب أفريقيا.

وعليه، فإن صمود المقاومة الفلسطينية ورفضها الانكسار ليس مجرد خيار عاطفي أو شعاري، بل هو شرط البقاء والكرامة، في مواجهة احتلال لا يعرف إلا منطق القوة، وحلفاء عرب لم يعودوا يتسترون على خيانتهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى